إهداء..
إلى ذلك الإنسان المُكرّم ..الذي فضّله الله بالعقل ..فاتخذأسلوب المُغالبة أسلوبا مبدئيا في معارضته الآخرين..فـ جادل..وزرع الشوك ثم غذّاه بالصراع..فـ اختار الشقاق والمشقة والنكبات؛عوض الراحة والثبات..فـ كثُر أعداؤه وقلّ أصدقاؤه..
إلى فضيلة الداعية المُلهم ..الذي جرّد نفسه للدعوة ؛فـ حاور في مواطن الحوار ..وجادل في مواطن الجدل ..بالتي هي أحسن؛ليقنع نظيره بحجة الحق الدامغة ؛في ؤضرورة توحيد الله وعبادته؛وبحتمية تطبيق منهجه المُستقيم في الأرض؛كتابا وسُنّة؛ تطبيقا فرديا وجماعيا..
إلى هذا المُسلم العالم ..الذي عاش في فضاء السلم ..حينما أدرك أن الإسلام نظّر للكيفية التي يتعامل بها مع الآخرين..عبر جسر التواصل اللغوي ..وعلى مطية الحوار ..ليبحث في نفسية أخيه المسلم عن عناصر الخير..يستنطقها بالكلمة الهادئة الرقيقة ..ويُثريها ..يستفهم ثم يفهم ..ثم يبث أفكاره للمُتقبل ..ثم يودِّعه في صفاء..وكله أمن وطمأنينة..
إلى أولئك..وإلى هؤلاء..
أهدي هذا العمل..
توطــــــئة..
بسم الله الرحمن الرحيم
// ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كلِّ مثلٍ؛وكان الإنسان أكثر شيء جدلا.وما منع الناس أن يؤمنواإذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا.وما نرسل المُرسلين إلا مبشرين ومُنْذِرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليُدحضوا به الحقَّ واتّخذوا آياتي وما أُنذِروا هزؤا//الكهف الآية:54ـ 56ـ 57.
ومن الأقوال المأثورة عن أبي حامد الغزالي ـ رحمه الله ـ :
// مهما رأيت العلماء يتغايرون ويتحاسدون؛ ولايتآنسون ؛ فاعلم أنهم اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فهم خاسرون//.
// أشدُّ الناس حماقة ؛أقواهم اعتقادا؛في فضل نفسه؛وأثبت الناس عقلا أشدهم اتهاما لنفسه//.1.
مقـــــدمة.
لقد خلق الله الحق والباطل ؛وخلق الإنسان بالعقل ؛مُختارا بينهما .كما أفاء عليه بآلاء الحرية الوُجدانية ؛وفي المُقابل حرّم عليه استبداد الآخرين ؛ولو برأيه..
وفي الطرف الآخر ؛جعله كائنا اجتماعيا؛ حياته لاتقوم إلا مع الآخرين ؛فـ نهاه عن العُزْلة ؛وأمره بمراعاة مصالح الآخرين؛وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
//من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فـ ليس منهم //2.
وقد ضبط الله تلك المُعاملة للآخرين بضوابط شرعية ؛تمثل جزءا في المنهج الرباني الكامل ؛الذي رسمه للبشرية كي تعيش في الأرض؛فـ تسعد ولاتشقى في الدنيا والآخرة..
وبهذا تكون العدالة مطلقة في حساب الإنسان حسابا فرديا يوم الدين ؛ ثم حسابه حسابا جماعيا من خلال علاقاتهم ظاهريا وباطنيا مع بعضهم.
والمعاملة مع الآخرين ؛تكون عبر قنوات التواصل اللغوي القولي ؛أو الفعلي السلوكي العملي ..ووسائل ذلك التواصل هي الحوار أحيانا ؛ والجدل أحيانا أخرى ؛ كأسلوب حضاري يترجم الوعي والدراية ..وقد وضّح القرآن الكريم للمسلم ؛متى ومن يحاور؟كما رصد له مواطن الجدل وكيفياته؟ودعاه إلى استخدام العقل الهادئ الرزين ؛ونهاه عن الانفعال والغضب..
ولكن الشيطان الذي توعّد بإضلال ابن آدم؛متى سنحت له الفرصة ؛وسوس في نفس المسلم ؛وأنساه ماله وما عليه من حقوق وواجبات..وتحضرني هنا حادثة تلك الحالة المشؤومة التي حدثت بين الصحابةـ رضي الله عنهم أجمعين ـ حينما كره اليهود رؤيتهم في ذلك الجو الهادئ؛وبذلك الفكر الموحد؛ينعمون بالحياة في حضن الرسالة ؛وبين يدي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأوغروا صدورهم على بعضهم حينما أحيوا في صفوفهم تلك النعرة الجاهلية السالفة بين الأوس والخزرج؛وعالج القرآن الكريم الموقف؛ومما ورد في المناسبة :
//واعتصموا بحبل الله جميعا ولاتفرّقوا//3.
ولكن هل توقف الصراع الفكري بين الخير والشر؛الطاعة والعصيان؛الحق والباطل؛منذ خلق آدم ـ عليه السلام ـ عندما اختلف إبليس مع الملائكة في تنفيذ أمر الله تعالى في السجود؟؟..إن هذا الصراع مستمر إلى يوم الدين ؛ولايخلو منه جيل ..ففي كل جيل تتشكل المُغالبة بين حزب الرحمان وحزب الشيطان..
وأعداء المسلمين يبحثون دوما عن الثغرة في حصن المسلمين المنيع لينفذوا بأفكارهم السامة يشتتون الشمل ويفرقون الجماعة المسلمة الواحدة عبر العالم وقد استغلوا في هذا العصر باب جهل المسلمين لتعاليم دينهم وفقرهم فنفذوا منه... و المتتبع لحوادث الجدل في القران الكريم، يكتشف بنفسه أن الخلاف بين المسلمين هو ثمرة مخطط فكر صهيوني ماكر شتت لب المسلمين وأضعفهم.
ولا حياة للمسلمين ولا خلاص لهم من قبضة الأعداء إلا بفهم المنهج الرباني الشامل والعمل به، و ساعتئذ سيقودون البشرية ويتصدرون العالم ...
إن الفتن الداخلية التي تعرفها بلدان العالم الإسلامي باعثُها الصراع الفكري...
وأرضية هذا الصراع هي تلك الفلسفات الغربية الدخيلة على هُوية الأمة الإسلامية؛ ولا حياة للجدل إلا في ظل أفكار متناقضة الأبعاد والمنطلقات... وهذا يعني أن الجدل سيبقى يؤسس الصراع الفكري إلى غاية تحرير فلسفة الأمة من الفلسفات الغربية الدخيلة عليها ..فـ الدعوة إذن إلى التحرر من الفكر الغربي..هي دعوة إلى منع أسباب الفتن والصراعات من ساحة المجتمع الإسلامي ..وحينما نتحرر من الفكر الغربي فإننا حتما نزرع في الأراضي الإسلامية الأمن والاستقرار والطمأنينة ..ذلك أننا نوحد المصدر الفكري للأمة وبالتالي نعرف النهضة الحقيقية التقدمية المنشودة..
إن حب الخير للمسلمين .لكل المسلمين في العالم ؛هو من أملى علي أن أبذل جهدا في البحث عن بعض المُسببات التي نعتبرها براكين؛ في النفس البشرية ؛تقذف شُهُب نار الفتنة والتفرقة بين الإخوة .هؤلاء الإخوة هم كل من يعترف في قرارة نفسه أنه مسلم ؛ينشد الحق ؛ ويلتزم باتباعه كيفمكا كان ..وقد أدركنا من خلال هذا البحث المتواضع ؛أن الإسلام دين الحق الوحيد..وأن المسلمين مستحيل أن يعرفوا ـ لولا الإسلام ـ قاعدة إسلامية عادلة ؛لايظلم فيها المسلم أحدا من البشر إلا بالحق في كل المعمورة ..
إن هذه القاعدة التربوية العامة ؛هي الحث على الحوار بين المسلمين ؛باعتبار انسجام سلوكاتهم ؛ووحدة منطلقاتهم الفكرية ؛المنبثقة من صميم الكتاب والسنة ..وكذلك المنع الأبدي للجدل بينهم .فـ الحوار جمع وأخوة ووحدة؛ينتهي إلى التفاهم ونشدان الحق ؛أما الجدل فهو تفرقة بعد عداوة وخصام ؛وقد قال تعالى :
//إنما المؤمنون إخوة//.
إن نشر قاعدة الحوار ومنهجيته في إطار العلاقة العامة بين الناس جميعا ؛في كل أقطار العالم ؛يجب أن تدرج في برامج تعليمية للأجيال المسلمة؛ هي حتمية تاريخية ؛كل من عطّلها من المسلمين ؛عطّل رخاء حياة الأجيال المسلمين القادمين..ومقابل نشر الحوار وتعليمهم مسالكه ؛وكيفياته ؛ ومقاصده؛ يجب فهم الجدل كذلك بتفاصيله ؛وبذلك تغرس في الجيل روابط أخوية وثيقة الإحكام..إن المسلم إذا تربى منذ الصغر على تلك المواصفات التي يكرسها الحوار ؛لايختلف مع أخيه المسلم ؛وهذا هو المسلم العالم يتعاليم الإسلام؛ولاسيما في إطار التواصل مع الآخرين..
وقد تأثرت فئة من المسلمين في العصر الحديث بالفكر الغربي؛ففكرها من مخلفات الاستعمار ؛فاشتبهت عليهم الأحوال والمنطلقات الفكرية ؛فكثير من أبناء جيل الإسلام لايفرقون بين ماهو قاعدة حق ؛وقاعدة باطل ؟؟
حينما يتجرد المسلم من كل خلفية سياسية ؛ويطرق هذا الموضوع الشائك بكل موضوعية ؛يهتدي إلى أن الجدل والحوار وسيلتا تواصل بين الناس ؛ يعنيان العام والخاص؛وقاعدتان تحددان علاقتهم مع بعضهم ؛فإن ارتقت العلاقة إلى مستوى الحوار ..فـ النتيجة تفاهم ..وإن تأسس اللقاء على الجدل ..فالنتيجة تترتب وفق منطلقات متناقضة ؛وهي صراع وخلاف..
إن موضوع الجدل طرقه علماء كثيرون لأهميته ؛وليس القارئ بحاجة إلى إضافات فيه ..لولا أنني أسقطته على الواقع الإسلامي المعيش..دون تمييز بيئة عن أخرى ..وأسست فكرته على رؤية ميدانية مصدرها ملاحظة الوقع المتداول..
إن وجود خلاف بين المسلمين دلالة قاطعة على تعاطي الجدل وتداوله بينهم ؛فـهو المؤسس الأساسي للصراع..وتباين الآراء واختلافها ؛وتباعدها ..وهو باعث العصبية ..وهذا دليل على جهل شريحة واسعة بالإسلام..
أعتقد أن قارئا في الجزائر سيقف في البحث على حقائق عايشها ؛فـ يعتقد أن الدراسة تعني بيئته ؛كما يشعر بذلك الفلسطيني؛و السعودي ؛والسوري ؛ واللبناني ؛والمغربي ؛ ووالكويتي ؛واليمني .والقطري؛ والمصري...وكل مسلم في كل مكان..ذلك أن الاستعمار نجح ـ إلى حد ما ـ في تحريف المُعتقد؛بإدخال فكر غريب على الإسلام..
وقد ارتأيت من باب حرية التعبير ؛التي صارت هدفا في لوائح حقوق الإنسان؛أن أدل على الحقيقة كما أراها ؛ولن يهتدي إنسان إلا بمعرفة الحقيقة..ولن يتطلّع مسلم إلى مستقبل أفضل إلا بإزاحة أسباب الخلاف..أي القضاء على الأسباب المؤدية إلى الجدل..
إن إعدام أسباب الجدل بين الأطراف الإسلامية المُتغالبة ؛المتصارعة ..يعني العمل بجدية على طمس مُخلّفات الاستعمار؛والإيديولوجية الدخيلة على الأمة الإسلامية ؛والتي ما تزال مترسبة في أذهان بعض أبناء الأمة ..والعمل بالرجوع كلية بنية خالصة إلى صميم فلسفة الأمة الإسلامية المُمَثِّلة لمقومات شخصيتها ..
وهذا العمل هو دعوة إلى كافة أبناء المسلمين ليتحرّروا من الفكر الاستعماري..
ولكن :// رضى الناس غاية لاتُدْرك//.4
اللهم ألهمني رشدي وأعوذ بك من شر نفس..
اللهم ارزقنا عمق التفكير ؛وبعد النظر ؛ وفصاحة اللسان..
والله وحده من وراء القصد ..وهو الهادي إلى سواء السبيل..
إن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان ولإن أصبت فمن الله..
1ـ جواهر القرآن : أبوحامد الغزالي؛تحقيق د/ الشيخ محمد رشيد رضاالقباني.الطبعة الثالثة؛ص 11.قصر الكتاب .البليدة .الجزائر..
2ـ رواه البيهقي في الشُّعب عن أنس مرفوعا.
3ـ آل عمرن103.تُقرأ مناسبة نزول الآياتنابتداء من الآية100من سورة آل عمران.:كتب التفاسير.
4ـحكمة للإماتم علي ـ رضي الله عنه ـ.