من خصائص اللغة العربية
تنفرد العربية بخصائص رائعة عجيبة دون غيرها من لغات العالم .ولا غرابة في ذلك فهي اللغة التي نزل بها القرآن الكريم,فكان في بيانها إعجاز بهر عقول الفصحاء والبلغاء من العرب . . . .
وأولى هذه الخصائص خصيصة لغوية فريدة , تتبدى في هيئة الفعل و آليته (حركة الفعل ) فأنت لاتسألني عن كيفية (الضرب)_ مثلاً _ عندما أقول :"لكمه ، ركله ،لطمه ،وكزه ..." بل كل كلمة من هذه الكلمات ذات مدلول خاص عن كيفية هذا الضرب وعن الهيئة التي تم بها ...
وحرصاً على هذه الخصيصة الفريدة , جهد العرب قديماً في وضع كتب لها , بغية إغناء اللغة , وخدمة لمعانيها , فألفوا وصنفوا في معاجم المعاني ، وبلغت هذه المعاجم غايتها من التكامل والنضج في أواخر القرن الهجري الرابع , وخلال النصف الأول من القرن الهجري الخامس على يد " الثعالبي " في كتابه "فقه اللغة" و "ابن سيدة الأندلسي " في كتابه "المخصص " ؛ وغيرها من الكتب القيمة في هذا الباب ...
وتوضيحاً لذلك نورد بعض الأمثلة بياناً لتحديد مدلولات هذه الألفاظ , وماتمتاز به من فروق كائنة بينها :
جاء في الفصل الخامس والعشرين من الباب التاسع عشر عند الثعالبي في تفصيل كيفية الطيران وأشكاله وهيئاته في اختلاف أحواله : " إذا حرك الطائر جناحيه ورجلاه في الأرض قيل : دفّ ، فإذا طار قريباً على وجه الأرض قيل : أسفّ ، فإذا كان مقصوصاً , وطار كأنه يرد جناحيه إلى ما خلفه قيل : جدّف "ومنه سمي مجداف السفينة " , فإذا حرك جناحيه في طيرانه قريباً من الأرض , وحام حول الشئ يريد أن يقع عليه قيل : رفرف ، فإذا بسط جناحيه في الهواء وسكنهما فلم يحركهما ,كما تفعل الحدأ والرخم قيل :صفّ[وفي القرآن: "والطير صافات "_ سورة النور الآية 41 ]، فإذا ترامى بنفسه في الطيران قيل : زف زفيفاً؛ فإذا انحدر من بلاد الحر قيل : قطع قطوعاً وقطاعاً ، يقال : كان ذلك عند قطاع الطير ..."
من ذلك تبين أن الثعالبي جهد معتنياً في تحديد مدلول كل لفظة , ومواطن استعمالها . فاللغة العربية إذن تمتاز بقدرة فائقة على التعبير الواضح في الفروق الدقيقة بين المفاهيم المتقاربة . وكذلك كتاب " المخصص " إلا أن هذا الكتاب أكثر إحكاماً من " فقه اللغة " من حيث التبويب والتنظيم ، وأدق مافيه تأكيده على السمة المنشودة التي انفردت بها العربية ؛ وهي : استخدام اللفظ المناسب في التعبير المراد ، وأكثر ماتبدو هذه الخصيصة في القرآن الكريم ، ألا ترى معي قوله تعالى : " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص ... ( سورة المائدة الآية 45 ) .
أن الشاهد النحوي هنا كائن في كيفية تقديرنا لتعليق شبه الجملة _ الجار والمجرور باسم محذوف مقدر حسب المعنى المراد كأنْ نقول : النفس مقتولة بالنفس , والعين مفقوءة بالعين, والأنف مجدوع بالأنف , والأذن مصلومة بالأذن , والسن مقلوعة بالسن . وهذه دقة في التقدير أي دقة ، وهذا _ بالتالي _ دليل واضح على أن العربية لغة الإحكام والدقة والبيان .
ولهذا ينبغي أن نحافظ على دقة اللغة وإحكام استعمالها في موضعها المناسب ؛ إذ كثيراً ما يعتري هذه اللغة ركاكة في اللفظ وفساد المعنى , عندما لا نكون حريصين على مراعاة استعمال ألفاظها في الموضع الذي يليق بمعناها من جهة , وفي موضع استخدامها اللغوي من جهة أخرى , فكثير من الناس من يعبر عن صلم الأذن وجدع الأنف بقوله:_قطعت أنفه أو أذنه _ فيجعل الصلم والجدع بمنزلة القطع ، وهو في ذلك ربما كان مصيباً في التعبير لكنه مخطئ _ لامحالة _ في الاستخدام اللغوي _ من حيث اللفظ لهذا التعبير وهذا _ في الواقع _ إماتة للغة , وإجحاف في حق كيفية استخدامها .
أما الخصيصتان البارزتان الأساسيتان في العربية فهما " الإيجاز ، والإعراب " وقد أفرد لها أستاذ العربية في جامعة دمشق الدكتور " مازن مبارك " بحثاً مطولاً في كتابه " نحو وعي لغوي " تحت عنوان : ( من خصائص اللغة العربية ) وفيه يدل على أن العربية لغة الإيجاز , سواء أكان ذلك في حروفها أم في ألفاظها أم في تراكيبها منطوقة كانت أم مكتوبة ، وبذلك يميط اللثام عن التهم والشبهات التي أثارها أعداء العربية , على أن لغتنا لغة تعاب بالإطالة والإسهاب ، وقد غرب عن بالهم أن العرب قديماً افتنوا افتناناً بالغاً في الإيجاز حتى قالوا : ( البلاغة الإيجاز) و (خير الكلام ما قل ودل ) ، وقد أشار النبي "عليه الصلاة والسلام" _ وهو أفصح من نطق الضاد _ لذلك بقوله : " وأعطيت جوامع الكلم " وهذه السمة ضرب من البيان في كلامه _صلى الله عليه وسلم _ ، وللجاحظ كلمة أوردها في معرض حديثه عن أوجه الفن في فصاحة كلام النبي "صلى الله عليه وسلم " فقال : " وهو الكلام الذي قل عدد حروفه وكثرعدد معانيه ..."
ثم يوازن الدكتور " مازن مبارك " بين حروف وألفاظ وتراكيب العربية , وحروف وألفاظ وتراكيب اللغتين _ الإنكليزية والفرنسية _ ويؤكد في ذلك سمة الإيجاز التي اتسمت بها العربية؛ولكنه يشترط لقبول الموازنة أن تتساوى اللغتان في :
1 _ حجم الحرف ...
2 _ في الصفات الفنية للكتابة أو الطباعة .
3 _ في قدرة الكاتبين كل واحد في لغته ، على التعيير .
4 _ في استعمال الاصطلاحات والرموز .... ويقول الدكتور " يعقوب بكر " في كتاب " العربية لغة عالمية " : " إذا ترجمنا إلى العربية كلاماً مكتوباً بإحدى اللغات الأوربية , كانت الترجمة العربية أقل من الأصل بنحو الخمس أو أكثر..." .
هذا ، في سمة الإيجاز أما في سمة الإعراب ؛ وهي الحركات التي تشكل بها أواخر الكلمات العربية بغية الإبانة عن المعاني ، بقول الدكتور مازن : " وتتميز اللغة العربية _ فيما تتميز به_ بحركات الإعراب التي هي في حقيقة الأمر ضرب من ضروب الإيجاز , إذ يدل بالحركة على معنى جديد , غير معنى المادة اللغوية للكلمة , وغير معنى القالب الصرفي لها ، وهو معناها أو وظيفتها النحوية كالفاعلية أو المفعولية .. فنحن حين نقول : جاء صاحب الدار ، فإنما ندل بضم الباء على معنى غير المعنى اللغوي المستفاد من مادة " صحب " وغير معنى اسم الفاعل المستفاد من صيغة ( صاحب ) , وهو معنى إسناد المجئ إلى الصاحب أي معنى الفاعلية ، وذلك هو المعنى المستفاد من الضم ... " .
وللسيوطي في كتابه ( المزهر في علوم اللغة ) باب واسع في معرفة خصائص اللغة العربية ؛ يشير فيه إلى أن العربية أفضل اللغات وأوسعها ؛ فللسيف أو الأسد أو الفرس ـ مثلا ـ في اللغة الفارسية اسم واحد ؛ بينما نجد في العربية خمسمائة اسم للأسد ؛ ويعلل السيوطي هذا الاتساع بأن غير العرب لم تتسع في المجاز اتساع العرب . ويستفيض السيوطي فيما اختصت به هذه اللغة دون غيرها , كاختصاصها بالعروض التي هي ميزان الشعر , وبالهمز في عرض الكلام , وبالتصريف , وبمخالفة ظاهر اللفظ معناه , وبالزيادة في حروف الاسم للمبالغة, وبإضافة الفعل إلى ما ليس فاعلا , وبالتعويض ( إقامة الكلمة مقام الكلمة), وبمطابقة اللفظ اللفظ . وغير ذلك كثير مما ساقه السيوطي من سنن العرب في الكلام . ( المزهر ج1/321 ) .
وأخيراً ، : لايخفى على أرباب الفكر والأدب ما للعربية من وقع مستحب لدى النفس الإنسانية , فهي ترضي أذواق المفكرين والأدباء على مختلف منازعهم ومشاربهم ؛ فالأديب والشاعر يجدان في العربية ما يرضي ذوقهما , فإذا بالخاطر يسر , وبالنفس تمتع , وبالوجدان يثور، والفيلسوف والعالم يجدان في العربية مبتغاهما أيضا ,ً إذ يسيران أغوار أعماقها , ويغوصان في معانيها البعيدة بألفاظ تناسب مرادهما تناسباً كاملاً ، ... ومن هنا لا غرابة أن نسمع صوت الفيلسوف العالم الرياضي المشهور " البيروني " الذي ألف في الرياضيات والجغرافية والفلك والتاريخ ..لا غرابة أن نسمعه يقول : " والله لأن أُهجَى بالعربية أحب إلي من أن أمدح بالفارسية " .
د. نبيل قصاب باشي
سورية - حماة 1975م