تَنْطَفِئُ الأنْوَارُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّ الْظلامَ رَفِيقِي , وأنَّ الْضَوْءَ يَسْرِي شُعَاعهُ فِي الاتِّجَاهِ الْمُعَاكِسِ حَيث لانلتقي أبداً .
أحداث تتوالى تدغدغ كلي حيث تحطم داخلي الإنسان , ولايتبقَ في كل مرة إلا بقايا هشة ماإن تترسب في مساحاتها فتات أمل حتى يصيبها الانكسار . وأظل في رمقٍ تستعبدني الهموم .
- أمي : أشعر ببعض التعب ينتابني وعدم المقدرة على استوزاء قامتي ...
- لابد من مراجعة الطبيب المختص كي نطمئن جميعا ولنرَى مايقرره .
- قرأت ملامح ذعر ترتلها النظرات بعدما قام بفحص الساقين , وفي صمتٍ التقط القلم بين إصبعين ونقش على وريقة رسالة باللاتيني , وأمسك الهاتف ليجري مكالمة لطبيب الأشعة حيث بعضا من الحروف هي مااستوعبتها (Save the lives of sick ) .
- هدئي من روعك بنيتي وكوني بخير ...
وماذا ؟؟ ... ما مررت به من قبل علمني الصمود .
هناك ... قرأت القلق مع كل إنذار بالخطر من تلك الجهاز الذي يظهر سريان الدم في الأوردة , وجدت الطبيب يلتقط القلم ليخط على مواقع الألم من الجلد بالزيت الأسود ...
إحدى عشر خطاً في مناطق متفرقة من الساقين ..
- بطريقة لاتثير الشكوك : أرجو أن لاتمحِِ العلامات حتى مراجعة الطبيب المختص .
- ماذا بي ؟؟
- بسيطة الحالة مجرد جلطات في الأوردة سيضطر الطبيب لعمل شق بسيط لاستئصالها من تحت الجلد , ومثلها تَرِد علينا كثيراً ... لاتخافي ياصغيرة ..!
وفي صباح اليوم التالي وكلي ثقة في الله تعالى , تلفني أفراد العائلة بنظرات خوف ممزوجة بالشفقة ... وكثيراً من تساؤلات لاأدري ماهي ؟
فقط توضأت وأقمت الصلاة حتى بزوغ أول خيط ضوء لتصم أذناي عن السمع , وتسوقني قدماي لاأدري كيف هبطت درجات السلم وكيف وصلت إلى هناك حيث كل شيء في الموعد المحدد ....
أب يبتسم ... أم تبكي ... فزع يرتسم على باقي الوجوه ..
يقرع الطبيب باب الحجرة ويبادر بالدخول ..
- انتظر من فضلك أود الوضوء , تتقطع الكلمات في فمي وترتجف كل أجزائي ويتقعقع لحياني ولم تعد تقوَ قدماي على السير لتحملني ملائكة الرحمة إلى المصعد الكهربائي ليغلق بابه دون أسرتي , وعلى أريكة في حجرة مليئة بالمعدات والأضواء أجلس لأراه وقد استدار ليذهب بباقي ضوء قد التقطته عيناي لأفقد بعدها الوعي قبل أن يقترب لظهري الذي أراد رشقه بمحقن المخدر الذي كان يعده .
أشلاء , قذائف , صواريخ .. تمر من جانبنا فننكمش ونحتمي به , يحملنا الشموخ ... وتراقصنا الخيلاء لفدائيته , عشنا معه الأحداث لحظة بلحظة .. استنشقت شذا بارود المعارك ... وتعطرت بمسك دخان الدبابات والمدافع , كحلت عيني صوره الفدائية وانبهر عقلي من هول الحكايا .
السرور يلف المكان .. والتبريكات تشعل الأضواء .. أبتسم ويبتسم الجميع .! إنها أختي في ثوب الزفاف , تعالت أصوات الغناء ..
عمي .. أكنت مع والدي يوم أن فقد يده حينما أمسك بالقذيفة ليلقي بها على جنود العدو ؟؟
تبسم .. أما زال يحكي تلك الحادثة ؟؟
نعم كلنا يحفظها , كنت معه ولكن هذا كان بعد المعارك ..
كيف ؟ وكانت الكلمة التي على إثرها انهارت وهوى معها كل شيء .. لقد فقد يده عندما حاول الانتحار من أجل ..... عاهرة ؟
ليصمت الجميع ... وتنطفئ أنوار العرس , وتنتهي المعركة .
إنها مازالت تنتبه ..! لابد من جرعة مخدر كليّ أخرى ... مازال أمامنا الكثير في مهمتنا ... كل اللحظات مبتورة , هذه الدنيا , ليتها تتوقف عند هذا الكم من الجراح , أتلهف للنور .. كفى الضوء الأسود .! بكت الدموع , وتألم النحيب , . كم مسح على رأسي قسوة الأيام ؟ يقاسمني الحزن .. بل يأخذه عني , أنبت فرحاً بين ذراعيه , يطبع قُبلة على جبيني , أجلس بجواره .. يحكي وأحكي .. لايمل ولا أمل .
مضى شهران كدت أنسى الصدمة الأولى , ولكن ...! رويدك أحلامي .. هوناً .. لِِمَ يسرقوك مني ؟ صوت الهاتف ليس ككل مرة .. وجه أمي عابث , ترد في ذعر : نعم سـأحضر ..
لن أتركك تذهبين وحدك , أود رؤيته .. نجري بهلع - لن تدخلي معي , إبقِ هنا ..
ابتعدي عني أود النظرة الأخيرة .. اقتحمت المكان ولهول مارأيت ..! حسرة تختلج فؤادي , تلفح وجهي , أهذا جدي الذي كنا بالأمس القريب ؟؟ تفتح ثلاجة الموتى لأجده بلا حراك ممدداً .. تنهار قواي , ولم أقدر على جمع شتاتي , رحل من كان يحبني .. رحلت روحٌ كنت منها وهي مني .. ترك حباً في قلبي وحيدة أنثر الحروف بلباس الألم , وحسرة لاتنطفئ .. ذكرى أعيش بها وأشقى .. أبقى أو لا أبقى .
تتوالى الساعات ومشرط الطبيب يتفنن في قص ولصق مايحلو له والأسرة جميعها تنتظر بالخارج ..
تلك نبتة أمل تنبض بالحياة , الكل ينتظر .... يترقب .. أن تنكشف ستائر الغمة وتـُشعل أنوار جديدة تقشع ظلمة الأيام الكئيبة , توالت مخاضات المساءات . .. لعل مخاض قريب يضع بذور ضوء من رحم الغيامات الداكنة .. انشغالات .. خيالات .. إستبشارات ..., تساؤلات وآمال تتراقص في عيون دامعة ... متى تشرق البسمة هنا ؟ متى يصل القادم الباكي ... يصرخ ... يوزع الفرحة علينا في همساته الرقيقة .. في نبضاته البكر..
أنا من فكر بوردة أستقبله بها,
لكن والدتي كانت تعد له رداءًا بزهور وطيور تتراقص عليه ألوان الشروق, والأخريات يجهزن وسادته .. لكن غفل الجميع أن يعد له طعاماً ,ربما علموا انه لن يطيب له طعامنا ... وعلى حين عهد .. علا صراخ وتأوهات ..وارتجفت قلوب ... وزرفت عيون ,
والجميع يترقب البشري ! قلبي يحدثني أي بشرى على أمواج الدموع ... أُخِذَت أختى الكبرى إلى الغرفة المضيئة ..
إذن ستشعل الأنوار من جديد, ملابس بيضاء شفافة ... بشرى خير إنه الطبيب..
كل إنتهى من مهمته ... لف المكان رعب الإنتظار ... رهبة الترقب ترسم تقاسيم الوجوه , وتحتار لقاءات العيون ... خيم الصمت كعادته على الموقف... فـُتحت الغرفة المضيئة.. تسلل بعض النور إلينا ,خَرَجت والكل يلتف حولها , إلى أن استقرت على المتكأ ,
أمي .. نريد رؤية الوليد ... نهرع إلى هناك نهرول خلف خيوط الضوء. , أنظر إليه ... أدقق النظر ,
ياله من جميل .. حملته .. ضممته إلى قلبي , وبعمق نظرت إلى وجهه الملائكي , فاضت دمعة بكى حلمها من عيون تتبعت سراب وَاهِم وُشِّحَ بالسواد تساقطت على جسده العفن, وفَرَدَ الحزن أجنحته يحبو ليحوي مساحة بلون الأسى ...! لقد فارق الحياة قبل أن يرى النور بأيام , وبصوت .. يغلبني البكاء , ويتصدع قلبي بين الضلوع .
ويضع الطبيب لمساته الأخيرة من الحياكة الدقيقة ... يرقع تلك ... ويداري ذاك ... حتى انتهى من جميع الترميمات , لأجدني بعد ساعات طوال في حجرتي طريحة الفراش أكاد يبلغ مني النسيس , لاأقوى على الحراك وقد ضمدت ساقاي بالخبائب والسبائخ التي نبه الطبيب ألا تغادرني وأثبتتني ستة أشهر كاملة ...
أفتح عيني لأرى كل الأنوار انطفأت ... ماعدا نور لاينطفئ ... فرحمته وسعت كل شيء ..
وبابه مفتوح أبداً .