في الطريق إلى الزيارة
والتقت زرقة السماء بزرقة البحر فيما بدت أشعة الشمس الذهبية تتراقص فوق صفحة المياه تنثر الدفء والحياة فوق رمال الشاطئ الناعمة ، وتتسلل خيوطها عبر أزقة المخيم الضيقة وبيوته المتلاصقة المسقوفة بالقرميد وبألواح من الأسبست والصفيح .
وفيما كان النسيم العليل يلفح الوجوه بأنسامه الحانية المشبعة برذاذ الندى كانت الحافلة تشق طريقها في شارع المخيم الضيق حاملة فوق كراسيها المهترئة آهات شتى تعتصر القلوب بين لوعة الفراق المضني ولهفة الشوق واللقاء القريب .
ما أروعه من يوم مشرق جميل حين امتلأت الحافلة وهي تستقبل يومها الجديد بالجموع الزائرة ما بين أم وزوج أو أب وجد يستبد بهم القلق وهم ينظرون بلهفة شديدة إلى الطريق الممتدة أمامهم أيديهم على قلوبهم ، فيما كان الأطفال يتراقصون كالنحل ويمنون أنفسهم برؤية أحبائهم وذويهم .
وما كان أسرع ما توقفت بهم الحافلة عند أحد الحواجز ليطل منها جندي في مقتبل العمر بوجهه المتجهم وهو يحمل بندقيته شاهراً إياها نحوهم ، وبلكنة مكسرة طلب منهم النزول غير آبه بتوسلات المرضى ولا نداء الطاعنين والطاعنات ..
كادت الساعة تمضي ... وهم يجلسون القرفصاء على جانبي الطريق ينتظرون الإذن لهم بالصعود ، ولم يجد جنود الحاجز المتمترسين خلف حصونهم العاتية شيئاً يريبهم .. فلم يكن الركاب سوى زواراً يحدوهم الشوق واللهفة لرؤية أبنائهم المغيبين في سجون الاحتلال خلف الأسوار العالية ، ومع ذلك فقد تعمد جنود الحاجز تأْخيرهم رغبة في زيادة إذلالهم وتعكير صفوهم ..
ومرت الساعة إلى أن سمحوا للحافلة بمتابعة سيرها فالتفت أبو أحمد إلى جاره أبي محمود وهو يلعن هذا الحاجز الذي يُنغص عليهم حياتهم ويذيقهم عذاب الجحيم كلما مروا به ..
قال أبو أحمد : لقد أصبحنا غرباء في بلادنا .. تصور أنني لا أستطيع زيارة ابنتي الوحيدة في نابلس حيث تسكن مع زوجها هناك .
فرد عليه أبو محمود : إن لي ثلاث بنات متزوجات لا أتمكن من زيارتهن رغم كبر سني وتدهور صحتي .. والأدهى أنهن لا يستطعن زيارة بعضهن بعضا فحيثما سار المرء يصطدم بحاجزٍ هنا و حاجز هناك .. لقد أصبحت هذه الحواجز من الكثرة بحيث لا يمكن عدها .
أبو أحمد : لا أفهم كيف يدعي هؤلاء المحتلون العلم والديمقراطية والحضارة ومع ذلك يوقفون الأطفال ويغلقون المدارس ويسدون الطرق المؤدية إليها ، وحتى اللحظة ما زال إبني أحمد الذي التحق بجامعة النجاح الوطنية لا يستطيع الوصول إلى مقعد دراسته رغم كل ما يحمله من شهادات ووثائق تؤكد التحاقه بالجامعة .
أبو محمود : لا حول ولا قوة إلا بالله .. لقد كان الأطفال بالأمس يلعبون في الشارع آمنين وفجأة حاصر جنود الإحتلال المنطقة وأخذوا يطلقون النار بشكل عشوائي فقتلوا وجرحوا عدداً من الأطفال دونما ذنب أو جريرة .
أبو أحمد : إن هؤلاء المحتلين لا يرحمون صغيراً ولا يوقرون كبيرا ، لقد أصبح الناس يموتون على هذه الحواجز كل يوم .. بل إن النساء الحوامل يلدن أجنتهن على عتباتها ، ولا يستطيع الأطباء أو رجال الإسعاف الوصول لتقديم
الخدمات العلاجية لمن يحتاجها منهم .
وحانت من أبي أحمد التفاتة وهو يطل من نافذة الحافلة إلى بساتين البرتقال الممتدة إلى مرمى البصر فقال بحسرة :
آه .. هل تذكر يا أبا محمود هذه البساتين ؟؟ ألا تشم رائحة الليمون وعبير البرتقال يتسلل إلى رئتيك منها ؟؟
فرد أبو محمود متأسفا :
هنا يا أبا أحمد .. آه جمعتنا الجيرة .. هنا ولدنا ونشأنا .. عشنا وشربنا .. حرثنا وزرعنا .. وهنا تقاسمنا الخبز نغمسه بالزيت والزعتر .. آه .. آه
أبو أحمد : ما زالت أم أحمد تشتاق إلى الطابون وخبزه يا أبا محمود .. ما زلت أحلم بالعودة هنا .. وما زلت أحتفظ بكواشين الطابو إلى اليوم .
فيرد أبو محمود : ما زال مفتاح بيتنا في محفظتي أتفقده كل صباح كما أتفقد أفراد عائلتي .. ألا تشتاق إلى جلسات السمر وفنجان القهوة تحت نور القمر .. كل شيء في هذه الناحية يجذبني ويشدني إليها .. آه يا أبا أحمد .. إن الحياة بدونها لا طعم لها .. وا حسرتاه على ما مضى .
ويتابع أبو محمود : إنني أسمع أنين الطاحونة كل يوم .. هذه الطاحونة التي تشد خيوط الذاكرة ، كلما طافت بنا نوائب الزمان .. أسمعها يا أبا أحمد تعاتبني .. أسمع أنينها يجلجل في أُذني .. لكأني أرى دموعها تنساب كلما دارت بها يدي .
أبو أحمد : كأننا لم نهاجر منها إلا بالأمس القريب .. ما زلت أذكر طوابير الهجرة حين داهم هؤلاء الغاصبون قرانا واحتلوا بيوتنا وتركونا نهيم على وجوهنا في الأرض لاجئين ، أصبحنا بعد العز نتزاحم على الكوبونة ونلهث خلف بطاقات الإعاشة وأكياس الطحين .
أبو محمود : ما أشبه اليوم بالبارحة .. ها هم يداهموننا في ملاجئنا ويهدمون بيوتنا ويقتلعون خيامنا في كل حين .
أبو أحمد : وهل لنا حيلة يا أبا محمود .. ألم تر بعينيك مذبحة دير ياسين .. يا الله .. كيف اجتاحوا قرانا وهتكوا بيوتنا ودنسوا مقدساتنا ؟ من غيرهم اغتصب نساءنا وقتل أطفالنا الحالمين ..؟؟
وهل نسيت مذبحة كفر قاسم حين أطلقوا نيران حقدهم على إخواننا الفلاحين فحصدوهم في غمضة عين ..؟؟ وتتسلل الدموع من عينيه تحمل الأسى والحزن والحنين .
أبو محمود : إن هؤلاء المحتلين لا عهد لهم فحيثما حلوا يرتكبون المذابح والمجازر ، إنها جزء من دينهم وشريعتهم ، ذبحونا في حيفا وفي يافا وفي قلب المسجد الأقصى .. ليس هناك شبر واحد في بلادنا إلا وسال فيه دمنا كالشلال المتدفق .
أبو أحمد : آه ما أقسى قلوب هؤلاء المحتلين ، هل رأى أحد أو سمع من هو أقسى قلوباًً منهم ومن عصاباتهم الدموية كالشتيرن والأرغون والهاجاناه ..؟؟
أبو محمود : إن هذه العصابات ما تزال تمارس إجرامها طليقة من كل قيد ، إنها تسعى لمحونا عن الخارطة بكل وسيلة كي يصفو لها الجو وتحقق أحلامها في الأرض الموعودة .. أرض فلسطين .. أرض اللبن والعسل .
أبو أحمد : لقد صدقت يا أبا محمود فهم لا يريدون لنا وجوداً في هذه الأرض الطيبة المباركة زاعمين كذباً وزورا أنها أرض بلا شعب .
أبو محمود : اطمئن يا أبا أحمد ، فلن يتحقق لهم ما يحلمون به ألم تسمع بوعيد الله لهم لسوف ندخل المسجد ونطهر الأقصى من رجسهم بإذن الله .
أبو أحمد : بلى يا أبا محمود ، ها هي حجارتنا تقذف الرعب في قلوبهم ، وها هم أطفالنا كالأسود يفتكون بهم ويحطمون أسطورة جيشهم الذي لا يقهر ويذلون كبرياءه كل يوم .
أبو محمود : نعم يا أبا أحمد فهؤلاء الغاصبون القساة غلاظ القلوب لا ينفع معهم سوى لغة واحدة أصبح أبناؤنا وأطفالنا أهلاً لها وبجدارة .
أبو أحمد : ها هو السجن يطل علينا من بعيد ، وها هي أبراجه الشاهقة تكاد تلامس السحاب ، إن كثيراً ممن تضمهم جدرانه ويقبعون خلف أسواره ما زالوا دون سن البلوغ .. إنهم ما زالوا أطفالاً في أعراف أهل التمدن والحضارة .. فهل هؤلاء الذين يسجنون الأطفال ويقتلونهم يستحقون الحياة ..؟؟
أبو محمود : أبشر يا أبا أحمد .. فهؤلاء الأطفال اليوم هم رجال الغد ، ولسوف تراهم بمشيئة الله بعد قليل ، هؤلاء هم صُناع الفجر والغد الآت .. هم صُناع النصر وكتائب التحرير .. فاحتفظ بمفتاح بيتك تُسلمه لهم .. إنه مفتاح العودة وبوصلة التحرير ..
لطفاً ..
ربما الأفضل أن تسعفونا بملاحظاتكم لا مدائحكم
دمتم بكل الود