تقديراً للجهد المتميز الذي يبذله الأخ أحمد عيسى مشرف القصة ، أقدم لكم هذا العمل المتواضع الذي أرجو أن يحوز رضاكم ويحظى بآرائكم .
أبو عبدو
---------
وَقَفَ لِلَحظَةٍ مَدْهوشاً وهُوَ يَنْظُرُ إلى ذَلكَ الرَّجُلِ الأَنِيقِ، المَيْسور عَلى مايبدو، يُلَوِّحُ لَهُ رافعاً رأسه ليراه ويُنادِيهِ مِنْ بَعِيدٍ فِي سُوقِ الخَضْراواتِ : أَبا عَبْدُو ... يَا أبا عَبْدُو ، نِداءاتٍ مُتتَاليةٍ بِصَوتٍ مُرتَفِعٍ يَجْهَدُ للتَّغَلُّبَ عَلى ضَجيجِ السُّوقِ .....، وسَرْعانَ ما استَبْدَلَ أبو عبدو الدَّهشَةَ بالبَهْجَةِ والانشِراحِ وأَسرَعَ إلى صاحِبِ الصَّوتِ مَعَ أَنَّه لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ عَنْ بُعْدٍ .
كانت هَذِهِ المَرَّةَ الأولَى مُنذُ سَنَواتٍ إِذْ يَسْمَعُ أَحَداً يُنادِيهِ بِكُنْيَتهِ الَّتي عُرِفَ بِها فِي بَلْدَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُهاجِرَ .. أَحَسَّ كَأَنَّ السُّوقَ هَدأَ مِنْ حَوْلِهِ إِلاَّ مِنَ النِّداءِ المُحَبَّبْ الَّذِي عَزَفَ عَلَى أَوْتارِ قَلْبِهِ فَدَّبَّ فِيهِ نَشَاطٌ عَجِيبٌ فَمَا عَادَ يَشْعُرُ بالحَرِّ الَّلاهِبِ والتَّعَبِ المُنْهِكِ ،... لا بُدَّ أَنَّ ذَلكَ الرَّجُلَ الأَنِيقَ هُو أَحَدُ سُكَّانِ بَلْدَتِهِ وَرُبَّما كان قَريباً لَهُ وَقَدْ عَرَفَهُ ولِذلكَ يُنادِيه .. ! ..عِنْدَمَا مَرَّتْ بِخَاطِرِهِ هَذِهِ الفِكْرَةُ اضْطَرَبَ وخَفَقَ قَلْبُهُ بسُرعَةٍ ، كَيفَ عَرفَهُ الرَّجُلُ وَهُوَ بِهذِهِ الهَيئةِ ؟ لَقَدْ تَغَيَّرَ فِي السَّنَواتِ المَاضِيَةِ ، سَمِنَ قَليلاً وَصَبَغَتْ الشَّمسُ وَجْهَهُ وأَحْرَقَتْ ذِراعَيْهِ وَلَطَّخَ الشَّيْبُ شَعْرَهُ الأَشْعَثْ . خَجِلَ مِنْ مَظْهَرِهِ وَهُوَ يُلْقِي نَظْرَةً سَريعَةً عَلى مَلابِسِهِ الرثَّةِ الَّتي رَسَمَ فِيها العَرَقُ خَرَائِطَ مِلْحٍ ، وآثارِ الخَضْراواتِ والتُّرابِ التي عَلِقَتْ بِها ، وشِبْهِ الْحِذاءِ الذِي يَنْتَعِلُهُ وَيَجُرُّه عَلى الأَرْضِ .. لا شَكَّ أَنَّ رَائِحَتَهُ كَذَلِكَ تَفُوحُ بِمَزِيجٍ مِنَ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا المَعْجُونَةِ بِمَا اعْتَصَرَهُ الْقَيْظُ مِنْ بَدَنِهِ ، ثُمَّ تَذَكَّرَ السَّلَّةَ المُتَدَلِّيَةَ مِنْ مَنْكِبِهِ والخِرْقَةَ المَعَقُودَةَ عَلى جَبْهَتِهِ ... وازْدادَ تَرَدُّدُهُ ... لِكِنَّ الرَّجُلَ لَمْ يُمْهِلْهُ وتَسَارَعَتْ خُطَاهُ نَحْوَهُ وَهُوَ يُتابِعُ النِّداءَ ... أَبَا عَبدُو .. يا أبا عبدو ..
أَمَّا أبو عبدو فَقَدْ اتَّخَذَ قَراراً جَرِيئاً مُغَلِّباً عِزَّةَ نَفْسِهِ عَلَى خَجَلِهْ ، فَالعَمَلُ شَرَفٌ والفَقْرُ لا يَعِيبُ صَاحِبَهُ وخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُرَى حَمَّالاً فِي سُوقِ الخَضْراواتِ مِنْ أَنْ يُشَاهَدَ مُتَسَوِّلاً يَسْتَجْدي النَّاسَ عِنْدَ أَبْوابِ الْجَوامِعِ وَلْيَقُلْ أَهْلُ بَلْدَتِهِ مَا شاؤوا إِنْ وَصَلَهُمْ نَبَأُهُ.
اتَّجَهَ أبو عبدو نَحْوَ الرَّجُلِ الأَنيقِ راسِماً عَلى وَجْهِهِ ابْتِسامَةَ تَرْحِيبٍ وَهُو يُحَدِّثُ نَفْسَهُ : .. لَيْسَ مِنَ الذَّوْقِ أَنْ أُعَانِقَهُ فَأُضَايِقَهُ بِرَائِحَتي وعَرَقِي وأُلَوِّثَ مَلابِسَهُ .. سَأَكْتَفي بالمُصافَحَةِ ...لا..! .. حَتَّى هذه لا حاجَةَ إِلَيْها فَيدايَ خَشِنَتان وليْسَتا نَظِيفَتَيْنِ ... سَيَشْعُرُ بِالتَقَزُّزِ ... وَلَكِنْ إِنْ لَمْ أَصافِحْهُ سَيَعْتَبِرُ ذَلِك سُوءَ أَدَبٍ مِنِّي وَيَعِيبُهُ عَلَيَّ ! .... عِنْدَ ذَلكَ كانَ الرَّجُلُ قَدْ وَصَلَ إِلى المَكانِ الذِي بَلَغَهُ أبو عبدو الَّذِي كانَ يَبْتَسِمُ لَهُ بِكُلِّ بَشَاشَةٍ وَعَيناهُ تَلْمَعانِ وَأَلْقَى السَّلَّةَ إلَى الخَلْفِ وَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْه عَلَى اسْتِحْياءٍ وَبادَرَهُ مُسَلِّماً : أَهْلاً وَسَهْـــ .....ـلاً....... لَكِنَّ الرَّجُلَ الأَنيقَ ... الذِّي فاحَتْ مِنْهُ رَائِحَةُ عِطْرِهِ الثَّمِينِ ... تَجاوَزَهُ إِلَى رَجُلٍ آَخَرَ كانَ خَلْفَ أَبي عبدو الحَمَّالْ الَّذي تَسَمَّرَ بُرْهَةً وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا يَتَعانَقانِ ... نَاسِياً يَدَهُ المَمْدُودَةَ ...... لِيَضَعَ فِيها ذَاكَ الأَنيقُ .... دِرْهَماً .
***************