مقوّمات الزعامة بين الإسلام والواقع الراهن
ليس أهلا للزعامة إلا جيل من الكرام الأحرار بزعامة كرام أحرار، وهؤلاء هم القادرون على صنع المنجزات
أيّ زعامة تلك التي تعتقد أنّها لا تستطيع إثبات وجودها إلا إذا استأصلت كلّ منافس محتمل لها، فلا تحتمل إلاّ وجود إمّعات لا يعرفون كلمة (لا) وإنّ تجرّأ أحدهم على تجاوزها كان نصيبه اللحاق بمن سبق التخلّ منهم، نفيا أو سجنا أو ملاحقة أو حتى إعداما.. وفي أفضل الأحوال تمّ إبعادهم عن مواقع صناعة القرار!.. إنّ الزعيم الحقيقي هو ذاك القادر على أن يقود أمّة واعية، وأن يثبت وجوده رغم كثرة الأكفاء حوله، وأن يتمكن من الاستفادة من الطاقات والقدرات لا أن يهدرها.. وكلّ نظرة في واقع الانهيار والتردّي والضعف في أي دولة من الدول، توصل إلى أنّ الاستبداد في مقدّمة الأسباب الرئيسية من وراء ذلك.
بين العهد النبوي والعصر الحاضر
عندما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد 23 عاما في الدعوة النبوية، منها 11 عاما على رأس الدولة التي أسسها في المدينة المنورة، كان مستحيلا سدّ الفراغ الذي خلّفه محمد "النبي" صلى الله عليه وسلم، فقد كان خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله تعالى عليهم وسلامه أجمعين، وانقطع بوفاته الوحي ما بين السماء والأرض، أمّا القائد العسكري والزعيم السياسي ورئيس الدولة –إذا أردنا استخدام تعابير معاصرة في وصف بعض جوانب حياته صلى الله عليه وسلم- فقد كان يوجد حوله أثناء حياته جمع كريم وكبير من الصحابة، القادة الزعماء الأكفاء الصالحين لرئاسة دول، القادرين بدرجات متفاوتة على حمل الأعباء من بعده، وكانوا معه أثناء حياته وممارسته مهام القيادة والزعامة والرئاسة، ولا يخطر في بال عاقل أنهم كانوا "زعامات منافسة" له، ولا يخطر في بال عاقل أيضا أن مكانته صلى الله عليه وسلم قد تأثرت سلبا بوجود ذلك العدد الكبير من الشخصيات الفذة حوله، أو أنها تأثرت سلبا من مواقف من قبيل القرار في قضية الأسرى، أو قصة المجادلة، أو تأبير النخل، أو المشورة في أحد، فما كان يصدر من اجتهادات ومواقف عمّن حوله، كان رفدا للبناء الذي يقيمه، حتى وإن نزل الوحي بغير ما قال به اجتهاده البشري.
هذا ما منع بإذن الله وتقديره، من وقوع " فراغ سياسي " بعد الوفاة، بل إن الدولة التي أسسها على بقعة صغيرة من الأرض في المدينة المنورة، مضت بمن بعده لتدفع الدولتين الكبريين في عصرها ذات اليمين وذات الشمال، ولتمتد بحدودها وبمبادئها ومنهجها فتشمل سائر أصقاع المعمورة المعروفة في ذلك العصر خلال أقل من قرن واحد.
لقد انقلبت المفاهيم في عصرنا هذا رأسا على عقب، وبات تبجيل " الزعامة " وتكريمها يتناسب طردا مع مدى انفرادها في الساحة وبصناعة القرار، وبالأمر والنهي، حتى ولو كان ذلك بتغييب سواها بوسائل مشروعة وغير مشروعة، حتى بات "الإنجاز الكبير" وفق تلك المفاهيم المقلوبة، أن يُحدِث غيابٌ محتم على زعامة ما بالموتِ -والموتُ حقّ- فراغا لا يسدّه أحد، وما ذلك في واقع الأمر سوى نتيجة من النتائج الخطيرة لتغييب كل من يمكن أن يسدّ الفراغ أثناء وجود تلك الزعامة على قيد الحياة. وتلك الزعامة الانفرادية لا تخلّف إنجازات حقيقية، ولكن حتى لو خلّفت إنجازات ما، كان مصير تلك الإنجازات في الأعمّ الأغلب الانهيار والضياع عقب غيابها، فتضيع بذلك قيمة وجود تلك الزعامة نفسها في فترة من فترات التاريخ، فكأنّها لم تكن من قبل، سيّان هل كانت إنجازاتها إيجابية أم سلبية، هذا لو سلّمنا جدلا بأن "الزمن الضائع" لا قيمة له في حياة الأمم!..
من مقوّمات الزعامة
إنّ الزعامة الأكبر والأحق بالتكريم هي تلك التي تستطيع البقاء في موقع الزعامة عن جدارة تصنعها إنجازاتها، وهذا رغم وجود عشرات الزعماء حولها، وليست تلك التي لا تستطيع البروز على السطح إلا إذا غاب هؤلاء، أو سبقت تصفيتهم، أو قضي عليهم وهم أحياء، بتكميم الأفواه وهدر الطاقات، فأدنى درجات فنّ الزعامة الحقيقية هو التمتع بالقدرة المتفوقة على المنافسين عبر توظيف كل طاقة متوفرة، لأفضل غاية مرجوّة، بأقل خسارة ممكنة.
كذلك فإن الزعامة التي تستحق التكريم ليست تلك التي تعيش أو يبدو أنها تعيش عبر تقديس منجزاتها مهما صغرت، وتجاهل أخطائها مهما عظمت، لا سيما في عصرنا هذا بعد أن أصبح يقال بتحقيق الإنجاز لمجرد الوقوع في هزيمة أصغر مما وقع فيه آخرون، أو مجرد الامتناع عن "الإسراع" في التقهقر عن حقوق وأهداف مشروعة كسرعة آخرين.. بل وعبر المقارنة فيما هو أكثر مدعاة للاستغراب والذهول من ألوان "الاستخذاء" والتبعية بدرجات متفاوتة، بدلا من المقارنة بين انتصارات علمية أو عسكرية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سوى ذلك من ميادين الحياة البشرية. وحتى المنجزات في هذه الميادين، إنما يستحقّ المساهم في صنعها التقدير والتبجيل، عندما يكون من صنف الزعامات التي ترى تحقيق المنجزات مهما عظمت جزءا من واجب حملت المسؤولية عنه، وترى قصورها عنه جريمة، وأداءها له سبيل نجاة ممّا يعنيه ثقل الأمانة، عندما يرتقي إلى مستوى الإحساس بالمسؤولية عن شاةٍ تعثر على شاطئ دجلة، فآنذاك تجد الزعامة الجديرة بالتقدير في تقويم أخطائها هدية، وفي تذكيرها بالواجب ما يستدعي حمد الله أن في الأمّة وعيا وبصيرة، وجرأة على قول الحقّ لا تُخشى فيه لومة لائم.
ثم إنّ الأمة تحيا بكثرة زعمائها لا بندرتهم، ما دام كل منهم ينظر إلى المنصب على أنه مسؤولية وأمانة، فلا يتكالبون على المناصب ولا يتنازعون على السلطة، فإن حملها أحدهم عن جدارة واستحقاق وكفاءة، كانوا أحرص ما يكونون على رفده بما لديهم من طاقات، وكان أحرص ما يكون على كثرة الآراء والاجتهادات للوصول من بينها إلى الرأي الصائب، وكثرة الطاقات لتعبئتها في خدمة الواجب، فلا يحجر على رأي يخالفه، ولا يوظف القضاء للتخلص منه، ولا يحارب العلماء إلا من وقف منهم على أعتابه.. ثم لا يرى في امتناعه عن تلك الموبقات وأمثالها "منّة" على سواه، فهيهات تكبر زعامة من الزعامات إذا رأت في كل حقّ يناله أصحاب الحقوق عطاء منها وكأنها تملك الحقوق وأصحابها، والملك كل الملك لله وحده، وهيهات أن تكبر إذا رأت في كل واجب تؤدّيه صدقة منها على الناس وعلى التاريخ، كما لو أنّ وجودها في موقع صناعة القرار كان لغرض آخر سوى أداء ذلك الواجب.
مستقبل زعامة الأمّة
ليست الزعامة الحقة صفة مكتسبة تصنعها دورة من الدورات التعليمية والتأهلية، ناهيك عن الوصول إليها بأسلوب انتزاعها انتزاعا اعتمادا على القوة وعبر السيطرة على مناصب قيادية، ذاك ما يصنع التسلّط، أما الزعامة فتولد ولادة طبيعية، في محاضن الإيمان والاستقامة، والعلم والعمل، والعبادة والجهاد، والصبر والمصابرة، واليقين الدائم بأنّ فوق كل ذي علم عليما، وفوق كل ذي جبروت جبّارا، وفوق كل صاحب قرار في الأرض ربّاً قهّارا، الأرضُ قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه.
وذاك الصنف من الزعماء هو الذي يمكن أن يغيّر ما نحن فيه، فيسمو به إلى القمة التي أرادها الإسلام لهذه الأمة، ويستعيد الكرامة التي تنتظر أهلها ورجالها وزعماءها، ما بين جنوب الفيليبين والقدس، وبين الشاشان والجولان، وبين الصومال وأفغانستان، ولن يكون لها أهلاً إلا جيل من الكرام الأحرار بزعامة كرام أحرار، وهؤلاء هم القادرون أيضا على صنع المنجزات في ميادين العلم والتقنية، والتطوير والتنمية، وفي مكافحة الفقر والمرض والأمية والتخلف، عبر العودة من جديد إلى معادلة أداء الواجب أولا، فهو الطريق الأقصر والأضمن لاستعادة الحقوق، وهو الطريق الواجب والممكن لصناعة الإنسان، المؤمن العالم، الواعي العامل، المجاهد المصابر، الخبير المنتج، فلا ينزلق إلى طريق الفساد لأنه يخشى الله والحساب، سواء كان زعيما أم لم يكن، وكان في منصب رفيع أم لم يكن، وسواء ظنّ أنه آمن من الحساب في الحياة الدنيا أم لم يظنّ، فنصب عينيه على الدوام الرهبة الوازعة المانعة التي تصنعها المشاهد القرآنية من يوم الحساب الأعظم بين يدي الديّان.
أولئك الذين هم الذين يسيرون على نهج الصحابة أيام المقاطعة القرشية في شعاب مكة، ليكون منهم الفاتحون لأرض كسرى وقيصر، الحاملون لرايات الهداية حتى سواحل بحر الظلمات وبحر الخزر، ويسيرون على نهج بلال وهي ينادي في المحنة أحد أحد، لتصبح بعد بضع سنوات شعار النصر في موقعة بدر الكبرى، وعلى نهج عمر يرقّ قلبه لآياتٍ من سورة طه فيصبح بالإيمان الفاروق العادل.
وإن في الأمة الإسلامية الآن، في هذا العصر، ومن وراء كل ما يبدو مثيرا لإحباط وقنوط، ألف سبب وسبب موضوعي للاستبشار بتحقيق وعد الله، بالتمكين لدينه في الأرض، ففي كل مكان، بذور خير، كالحبّة التي تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، ولا بد أن ينجلي ضباب الضجيج والصخب عاجلا أو آجلا، وأن يظهر ما صنع ويصنع الإسلام لأمته وللبشرية جمعاء، فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، والعاقبة للمتقين.