ظلت تتأمل الأضواء المتلألئة في الشوارع، وهي تمر أمام ناظريها في لمح البصر والقطار يغادر الرباط أكدال ويطوي المسافة بدخوله الرباط المدينة، كان ينتظر قدومها بعد كل سفر ولا يفوت ذلك لأي سبب، هاتفها لا يتوقف عن الرنين لدرجة الإحساس بالحرج ...
لقد ظنت بأنها بلغت غايتها وحققت حلم حياتها الذي كانت تتمناه وتصبو إليه منذ زمن بعيد، لقد فازت بامتلاك قلبه الذي كان بدون شك متعطشا لقلب يشاركه هبات الحياة ويسكن إليه من الأزمات، كان يقول وهي تصدق كل ما يقول؛ فهو فارسها الهمام الذي لا ينطق عن الهوى: حبيبتي أنت أجمل ما حدث لي في الحياة، عمري قبلك هباء، من بلاد بعيدة كنت أناديك.. يا روحي بدونك أنا بلا روح ..لقد نجحت في امتلاكي كما لم تفعل امرأة برجل. ..فكانت من طيبتها التي تصل حد السذاجة تصدق الأوهام وترتمي في أحضانه كالبلهاء.
يوقظها من ذكرياتها صوت ينبئ القادمين إلى الرباط بالهبوط والخارجين منها بأوان المغادرة ... تتطلع في الوجوه فلا تلفى أي معنى ،،، وجوه تلبدت بالهم اليومي.. يتأبط بعض الجرائد وبعض يراقب الحركة الغريبة بين الإقبال والإدبار ...
غريبة هذه الحياة، بالأمس تعطلت المواصلات بسبب الفيضانات فكان الجو مقفرا خاليا وساكنا، واليوم تدب الحياة وتخرج الحشود في حركة وجودية تعلن ميلاد شعب ...
رن محمولها، وجاءها هذه المرة صوت صديقتها، أشرق وجهها عندما علمت بأنها ستكون هنالك لدى وصولها، أحست بأن الحياة تبتسم لها دوما .. تشملها العناية الإلهية فتبعث من يزيح كابوس الضيق والألم.... تحمد الله دائما على هذه النعمة.
حقق كل منهما مراده وفاز بقلب الآخر ونسي في ذروة الانتصار الاحتفاظ بمفتاح نفسه.....
وذات يوم عندما تفقدت قلبها لم تجده ولما كاشفت عواطفها تنبهت إلى أنها أنكرت ذاتها وانصهرت فيه حتى أصبح قلبها لا ينبض إلا على صوته أو ذكره..
ينبعث صوت فيروز.. ينعشها وينتزعها من تداعياتها فتردد " أعطني الناي وغن " وتستدرك عندما تلاحظ بأنها في القطار فتحمر وجنتاها خجلا .. وتلتصق بمقعدها في زاوية العربة وتدس وجهها في كتاب " الجرح والتعديل" لبنسالم حميش..
تحايل منطقي، للهروب من حب استطلاع من معها بالعربة..
قررت الاستقلال والمطالبة باسترجاع قلبها المفجوع فبدا يبكي كطفل أرهقه الغياب والنواح، وبمجرد أن لمحها استعاد هدوءه النسبي... نظر إليها وكأنه ينتظر قدومها منذ ألف عام، فرأت في عينيه نوافذ تطل منهما ذكراها الحزينة، تقدمت وتمعنت فيه فوجدت فمه يبتسم بتوسل وأنين وعلى خديه خيطين من شآبيب الدموع، فسألته بإشفاق عن سبب الدموع فقال إنه كان يعتقد أنه لن يحس نبض قلبه من جديد بعدما سكنت دقاته بفجيعة رحيلها ...
_ إلى أين وجهتك ؟ هل أنت من الرباط؟ ...توالت سلسلة من الأسئلة كالسيل ..كالإعصار كالطوفان..عجيب هذا الاقتحام ... لست أدري كيف يسمح بعض بالتطفل والدخول إلى محراب الآخرين..
التفتت إلى صاحبة السؤال فابتسمت وقالت: عذرا اندمجت في الرواية ولم أسمعك، أشكر لك اهتمامك ، ودون أن تمنحها فرصة إعادة السؤال، خاطبت الفتاة المقابلة لها: الرباعيات أجمل في لغتها الأصلية..مع أن ترجمة رامي قد جعلتها تتغلغل في شراييننا وخاصة بصوت أم كلثوم الشجي..
الفتاة، مبتسمة ابتسامة الفطين: لم أقرأها بالفارسية، ولكن أم كلثوم جعلتني أبحث عنها لأتعمق في معانيها... وأنت هل تتقنين الفارسية ؟
ابتسمت وقالت: الفارسية كغيرها من الأشياء التي نمتلكها ثم نركنها على جنب فتضيع منا بالتدريج.. تاهت مني أبجدياتها في زحمة الحياة.. ولكن أجمل شيء أنني قرأت الرباعيات في لغتها الأصلية ..
رمقتها المرأة الأخرى نظرة تحمل الكثير من المعاني، فنظرت إلى الفتاة ووجدتها تنقل نظرها بينهما وكادت تنفجر في ضحك هستيري..
يا لمفارقات الحياة، كيف لا يتعب من ينظر إلى العالم وكأنه علبة كبريت..
رحم الله المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله "" وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ماذا لو كانت تلك الفئة على حق ؟؟ لماذا نفلسف معاناتنا وتستغرقنا الحياة وتعكر قضايانا المصيرية كل مزاجنا ...
قال لها، وهو مبتهج برؤيتها، بأنه كمن يحيا حلما بديعا لا يريد الاستيقاظ منه أبدا، فلما رأى لا مبالاتها بادرها بالقول: عيناك جنتي فلا تطرديني منهما، احتويني وانثريني بعدها كما تشائين، أريد أن تعانقيني علّي أسترجع فؤادي اللاهث خلفك ومعذبي، ضميني وذوّبيني حنانا ياحياة الروح ومهجتي....
تجدد نداء الصوت الآلي: محطة القنيطرة gare de kenitra.... نزلت الفتاة بعدما تمنت لها رحلة موفقة وسعيدة ..
آه...ما السعادة سوى شبح يرجى...
ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها ..رحم الله جبران..واعترضت في نفسها: لا نملّها ولكن من يتركنا لنستمتع بعذوبتها.. معادلة صعبة عندما يرتهن مصيرك بالآخر..فالسفينة لا يقودها إلا ربان واحد ..نواجه خسارة الرهان عندما يشرّق أحدنا بينما الآخر يغرّب...والطامة الكبرى عندما يكثر الشركاء في الفرح والسعادة فنتوه وتختلط علينا الوجهات...والأماكن ..جميلة جدا هذه الأغنية ...
أحست برجفة وانتابتها الذكريات عن لحظات توجها خلالها ملكة عندما أعلن بأنها امرأته لكل الأزمان، لحظات هي أيام وسنوات من عمرها، فلملمت نفسها المعذبة وهمت بالانصراف.
فإذا به يجري خلفها ويقول: تعالي معي نرقص للهوى كما ترقص الفراشات حول الأزهار، لأن الدنيا حزنت لهجرك لي وأعلنت الأحزان إلى أن يكون منك الوصال، أرجوك لبي هذا النداء فقد طال الانتظار، طريقك طريقي فلا تعاندي القدر ...
يا لجحود الانسان، يسعى خلف الهدف بكل ما أوتي من قوة، ويتعب قبل أن يحظى به، ولكنه لا يحمد الله أبدا على تبليغه المرام .. بل يعتقد بأنه قد امتلك العالم، أهو غرور أم ثقة ؟؟ أم مجرد تهور ولحظة طيش ... ياه هذا الطيش مشجب تعلق عليه كل نزوات الرجل .. وأقل منها بكثير هي جريمة لا تغتفر للمرأة .. تناقض مقيت .. نزوة ؟؟ بل جرم وفضاعة نفس ضعيفة ... الغلط غلط ولا يمكن تجزيئه أبدا ....
تذكرت السيد نعيم عندما كان يقول بأنه لا يتصور التمييز بين ابنته وابنه مطلقا... فكلاهما نفس واحدة ... وكم ناقشته في هذه الفكرة ... لم تكن تعلم بأنها ستحس وقع ذلك التمييز..... الرجل لا يعيبه سوى جيبه !!! من هذا الفيلسوف الذي سن هذه السنة ...لو كان جدي حيا وتعرف عليه لجعلهم يتوجونه في كرنفال السوق القديم 1...
أحست بانفراج وهي تتذكر ذلك الموسم الذي تتباهى فيه القبائل بأفضل قصعة2 ومر شريط طفولتها الجميلة أمامها فترحمت على والدها الذي كان كأميرة باعتبار أن نسل عائلتها يطغى عليه الذكور.
ردت عليه بيقين وإصرار: تعرفني، فراشة ليس كباقي الفراشات، رهيفة أنا وضعيفة أمام النبل والمعروف ولكن أمام الخسة والنذالة أنسحب وأترك خلفي اليباب،،، عنود لا أتراجع عن أي قرار... سمه عيبا أو ما شئت ولكن أبدا لن أقبل بهذا الجبن ...
الله يرحمك يا بابا، ثوري ثوري3...
كان يقولها ضاحكا عندما كانت تتخذ قرارا طفوليا بريئا وتصر عليه ... وتحتج والدتها: ستضيع هذه البنت بدلالك لها ... فيجيب: ألا تستحق ؟؟ ... انظري إليها لاتظلم أحدا وعقلها عقل حكيم ويزن بلدا....
_ أين غابت حكمتي عندما اقترنت بهذا الشخص... لو سمعت رأيك الثاقب يا أبي لوفرت على نفسي هذا العناء...
نظرت إليه واثقة من نفسها وقالت: قد أكون نحلة رفيقة بالأزهار، ولكنني خطيرة على الأوغاد، فارحل _لا أراني الله وجهك_ في طي النسيان، فجسمي لم يعد يحتمل معك غدر الزمان.
أصرت أن تسمعها منه قبل خروجها لترتاح وتعود إليها السكينة ... لن يرتبط اسمها بشخص كهذا بعد الآن ....
كان رجل أعمال ناجح ساعدته دراساته العليا على إدارة المشاريع بمهارة، وهبه الله كل شيء ولكن الجحود تلك الآفة التي تستبد بالإنسان عندما يفسح المجال لإبليس ويغلق باب الضمير جعله يندس على بعض الشرفاء ويوجه إليهم طعنات متتالية بالوشاية بهم للأمن بأشياق ملفقة... وحاول اختراق حرمة بيوتهم...حقيقة أخرى مرة تنضاف للفاجعة......
لم تفارقه إلا بعد حصولها على حريتها ...إذ انطلقت مرفوعة الرأس واثقة الخطوات وقد تركته خلفها ليس للذكرى ولكن للنسيان.
محطة فاس...فاس gare de Fes
نزلت من القطار وفي المحطة وجدت صديقتها، تعانقتا وخرجتا فهبت نسائم المدينة على وجهها وأحست ببرودة خفيفة تسري في كل جسمها...
وفجأة بدأت زخات المطر كأنها جاءت لتغسل حياتها كما كانت تغسل وجهها ... قالت لها صديقتها : أسرعي كي لا نتبلل..
التفتت إليها وقالت: بإمكانك الإسراع وانتظاري بالبيت...أما أنا فلابد من أن أعيش لحظة ميلادي التي ابتدأت الآن ... وبدأت تسير تحت المطر ...نشوى
وانضمت إليها صديقتها وهي تنشد كما في الابتدائي:
إخوتي هيا "" قد جاء المطر
كانت سعيدة لأول مرة بعد كابوسها الطويل، واستمرت في طريقها وهي تضحك كالموج على حد تعبير محمد برادة.....
......................... (الهـــــوامــش ).................................................
1-احتفال يقام بإحدى القرى الريفية ( نسبة إلى سلسلة جبال الريف) ويختار أثناءها أحسن قبيلة وكذلك يتوج أحسن بطل من الشباب المتنكرين ليكون زعيكم شباب كل القبائل لمدة سنة أي لحين اختيار بطل جديد...
2- القصعة إناء تقليدي عبارة عن طبق كبير من الفخار أو الخشب تحضر فيه العجائن كما يسقّى فيه الكسكس، وقد كانت القبائل تتفنن في إعداد أكبر قصعة كسكس بخليط الزبدة والعسل وإخفاء أكبر قدر ممكن داخله من اللحم وتعرض أمام وجهاء من مختلف القبائل للحكم واختيار الأفضل
3- ثُورِي هي في الأصل "ثُرِي" من دون تمديد وهي كلمة أمازيغية - ريفية بمعنى صعدت وارتفعت ...وهذا مثل للدلالة على الإصرار على الشيء والعناد ..فكلما تشبث شخص برأيه يقال له: ثُرِي ثُرِي. بمعنى نعلم أنه لن يغير رأيه وهذا المثل يقابله بالعربية مثل آخر وإن اختلف سياقهما وهو: معزة ولو طارت.
وقصة هذا المثل أن شخصا من قبائل الريف كان نائما تحت شجرة التين وسمع حركة فوق الشجرة فأخذ يسأل : من هناك؟؟
وأعاد السؤال ولكن بدون جواب وأعاده للمرة الثالثة مع التحذير والتهديد بإطلاق الرصاص ولما لم يستجب الشخص المختفي بين أوراق التين في المرة الثالثة هب الرجل قائما وصوب البندقية نحو مصدر الصوت حينئذ صرخ الطفل ضاحكاً : هذا أنا يا أبي . فأجابه الرجل:" ثُرِي ثُرِي وَرْيَا ثْهْوَا" (أي ارتفعت ارتفعت ولن تنزل) وأطلق النار على الصبي وأرداه قتيلا.