المشاركة الأصلية كتبت بواسطة المشرقي الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
موضوع لا أقول عنه إلا أنه يحتاج إلى الدخول إليه من خلال أسلوب اقتصادي شهير(التقسيط)؛لأن عملك
هذا جميل ورائع للغاية ، وقد اتخذ عنوانًا خلابًا ذا تعددات في الرؤية ، بحيث أنه يفتح أبواب الاحتمالات على
كل تصور ممكن ،ولكن عندما يكون المبدع بصدد الحديث عن لحظة (الإضاءة-التنوير) ففي هذه الحالة يكون
من اللازم الإشارة إلى أن هذه اللحظة هي واحدة من أصعب لحظات التاريخ الإنساني
الفردي
وذلك للتعقدات التي تكتنف عملية الكتابة .
العمل الذي كتبته جميل للغاية وسأرد عليه بإذن الله في أكثر من مشاركة ،لكن أنحي الجانب النقدي الآن
جانبًا قليلاً لنبقى في حضرة الأعمال التي تماست مع هذه النقطة .
إليك الآن جزءًا من كتاب (عن بناء القصيدة العربية الحديثة) للراحل د.علي عشري زايد رحمه الله ،فيه
جزء شائق للغاية ومقطع من قصيدة (الناي والريح في صومعة كمبريدج):
"وقد صور واحد من أنبغ شعرائنا العرب المعاصرين وهو الدكتور خليل الحاوي بطريقته الشعرية المتفردة تلك المعاناة الباهظة التي يعانيها الشاعر في سبيل اقتناص العبارة الشعرية الحقيقية ، وكيف يصارع الأهوال ،ويجتاز الخاطر من أجل تلك العبارة المتمنعة المدللة ، بكل ما تملكه من قدر ة خارقة على تغيير الوجود ،وإعادة صياغته.
يقول الدكتور حاوي في مقطع "الريح" من قصيدته الطويلة "الناي والريح في صومعة كيمبريدج"(3):
ولعل تخصب مرة أخرى ،وتعصف في مدى شفتي العبارة
دربي إلى البدوية السمراء ،واحات العجين البكر، والفجوات ...
أودية الهجير
وزوابع الرمل المرير عصي .. وليس يروضها غير الذي يتقمص الجمل الصبور
وبقلبه طفل يكور جنة .. غير الذي يقتات من ثمر عجيب
نصف من الجنات يسقط في السلال
يأتي بلاتعب حلال
نصف من العرق الصبيب
الشوك ينبت في شقوق أظافري ،الشوك في شفتي يمـَّرج باللهيب
في وجهها عبق الغريزة حين تصمت عن سؤال
(4)
نهضت تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال
تحدو ، تدور كما أشير بإصبعي
ولربما اصطادت بروقًا في دهاليزي تمر وما أعي
وبدون أن أملي الحروف وأدعي
تحدو، تدور،،تزوغ زوبعة طروب
وأرى الرياح تسيح ،تنبع من يديها منبع الريح المعطرت الجنوب
ومنابع الريح الطريقة والغضوب
للريح موسمها الغضوب
***
وحدي مع البدوية السمراء ،كنت مع العبارة
في الرمل كنت أخوض عتمته وناره
شرب المرارات الثقال بلا مرارة
فالشاعر في هذا المقطع الرائع من مقاطع القصيدة يجسد ذلك العناء المبدع الذي يتحمله الشاعر العظيم في سبيل اقتناص العبارة الشعرية ،هذه المتمنعة المدللة التي :"
تعصي وليس يروضها غير الذي يتقمص الجمل الصبور".. ولكن الصبر والعناء وحدهما غير كافيين،بل لابد أن تسبقهما تلك الخبرة الشعرية الشفيفة النقية التي تماثل في نقائها وشفافيتها سريرة الأطفال لابد ان يكون الشعر "
بقلبه طفل يكور جنة" وإذن فإن الشاعر العظيم الذي يستطيع أن يروض تلك العبارة الشموس هو ذلك "
الذي يقتات من ثمر عجيب .نصف من الجنات يسقط في السلال ،يأتي بلا تعب حلال ،نصف من العرق الصبيب"،وليس هذا النصف الذي يسقط من الجنات في السلال حلالاً بدون تعب سوى تلك الومضة ــــــــــالمتوهجة التي ينعم بها الله على وجدان الشاعر ،فيستطيع على ضوئها أن يرى الوجود رؤية جديدة ،ثم القدرة على الهيام بتلك الومضة والإخلاص في معاناتها واحتضانها حتى تؤتي ثمارها الشهية.
أما النصف الثاني "
العرق الصبيب" فهو ذلك الجهد المبذول في معاناة الرؤية الشعرية وتجسيدها ،ولقد تفنن الشاعر أيما تفنن في تصوير هذا الجهد ..فهو يخوض إلى العبارة الشعرية "
واحات العجين البكر"بكل ما توحي به من القدرة على التشكيل البكر والصياغة المتفردة و "
أودية الهجير " و"
زوابع الرمل المرير" و"
الشوك ينبت في شقوق أظافره" و"
الشوك في شفتيه يمرج
باللهيب".. وهو"
في الرمل ..يخوض عتمته وناره " و"
يشرب المرارات الثقال دون أن يشعر بالمرارة".. فأية دروب مضنية تلك التي يجتازها إلى العبارة الشاعرة؟!
لقد تفنن الشاعر في تصوير تلك العبارة المتمنعة الشموس بمقدار ما تفنن في تصوير مدى المعاناة المبذولة في سبيل الظهر بها ؛فهو يجسد هذه العبارة في صورة "
بدوية سمراء " بكل ما تحمله هذه الصورة من بكارة الفطرة وحيويتها وتفجرها الهادر ، وهي شموس نافرة عصية لا يتسطيع ترويضها غير الصبور الشديد الصبر، وهي في العنفوان"
ثم تلم غرور نهديها وتنفض عن جدائلها حكايات الرمال " وهي أخيرًا تملك قدرات خارقة ،فإذا ما سيطر عليها الشاعر استطاع أن يغير بها الوجود ، فيجعلها "
تحدو .. تدور كما يشيبر بإصبعه" ويجعل "
الريح تنبع من يديها "..إلخ.
***
هذا هو ما أورده الدكتور علي زايد عشري نقلاً عن خليل حاوي الشاعر اللبناني الراحل ،و أضيف عليهما بعض
ما أنعم الله عليّ به من رؤية في هذا المضمار .
وإذا كان الشاعر يتكلم عن حالة التوقد لكتابة عمل شعري ، فلا يختلف الأمر عنه في أي فن آخر ،فالحالة واحدة
ولكن المدخلات وخصائصها فقط هي التي تتغير ، بغض النظر عن نوع العلم أو الفن .
إنها لحظة استثنائية ،ولأنها كذلك فلابد من التعليق عنها -أيضًا- بمشاركات استثنائية أجمع فيها بعض ما قيل
عن هذه اللحظة شعرًا ،نثرًا إضافة إلى شرح موجز لمكتنفات هذه الحالة ومعترياتها من مد وجزر وأخيرًا ..
أعلق على هذا العمل ، فاعذرني للإطالة والثرثرة ،لكن هذا هو الإبداع دائمًا .. وفقك الله .