حدثنا مُعْوِزُ بنُ عالَة قال: أقبل عيد الأضحى، فوجدتُني بين فَكَّيْ رحى. ولقد بِتُّ أشوي القِراح، وأرجو ألا يصبح الصباح. جيبٌ أجْهدَتهُ التَّحاسير، فيه من البق أكثر من الدنانير. فقلت لأم العيال: عزيزتي ذات الدلال، يا واحدة بلا مثال، يا ملكة الجمال، يا أميرة الأمراء، وسيدة الفضلاء، يا سليلة النبلاء، يا من يستعطفك الوزراء، ويرجوك الشرفاء، ويمدحك الشعراء، يا من سار بأخبارك البلغاء، وأثنى عليك الكرماء! ماذا لو رضينا بالقدر، والمقدور ما منه مفر، وعفونا عن الكبش هذه السنة، وكانت لنا عليه مِنَّة؟ أوليس الخروف خليقاً بِحَنَّة؟ فقالت شريفة النسب، ذات الجاه والحسب: أجُنِنت يا رجل أم بك مَسٌّ وخبَل؟ قلت: بل أنت الوَحْمَى بلا حَبَل. قالت: أنصير أضحوكة الجيران؟ فلا مِجمَر ولا نيران!
قال معوز فقلت لزوجتي: لكنَّ التضحية يا عزيزتي سُنَّة، ولنا أجرُ النِّية، فلا تجعلي منها قضية! ثم إن الحرج قد رُفِع عن الأمة. قالت: يا نَكِد يا غُمَّة! أهذا وقت الفتوى؟ يا علة كل بلوى، لله منك الشكوى. لماذا لا تقترض من بنكٍ يا حَنكليس؟ قلت: أعصي الله وأُطيع إبليس؟ أغشى الحرام لأبلُغَ السُّنة؟ لا أفعلُها ولو أن أعتزل في قُنَّة. قالت: فماذا نقول للصغار؟ صبراً حتى يطلع النهار! بل ماذا نقول للجار؟ احبسْ رائحة الشِّواء عندك في الدار! يا للفضيحة يا للعار! اسمع يا رجل! إما خروف، وإما تسريح بمعروف.
قال معوز: ففوضت أمري إلى الله، وتوجهت تلقاء سوق الغنم، راجيا لقاء أهل الكرم. وقلت إن لم يكن كبشا فكُبَيش، عسى أن يهنأ لنا عيش. ثم دخلت السوق وجُلتُ بين القطعان، فبدا لي أن ليس في السوق غير سِمسار أو قرصان، فانقطع الرجاء وانعقد اللسان. وكنت كلما وقفت أنظر إلى خروف، أشاح بوجهه كأن الله أَعْلَمَه الظروف. ولما بلغ بي اليأس مبلغه، وهممت أن أغادر السوق وأهله، وعزمت على صِرمٍ جميلٍ، يقيني ذُلَّ السؤال، وسوء المآل، خُيِّل إليَّ أن كُبيشاً يضحك لي، فقلت أتُراه يعرفني؟ إن الطيور على أشكالها تقع، وإذا بصوت يقول خُذْ ولا تَدَع! كبيشٌ هزيل، لكنْ غيرُ عليل. ولا يغرَّنَّك الغِلَظ، فاصغِ لمن وَعَظ. وخُذْ من الدهر ما صفا، ومن العيش ما كفى. هذا سيِّدُ الشياه، أقبلْ يا من ضل وتاه! قال معوز فسألت صاحبه: أعمروس أم فرفور؟ قال: بل خروف مبرور.
قال معوز: فوضعت يدي على قَطَنه فإذا هو صوفٌ على عَظْم. لا شحم ولا لحم. لكنه سليم، وصوته رخيم. أحول ليس بالأعور، لكنَّ وجهه أنْوَر. أعرَجُ أَيْ نَعَم، لكنْ في ثُغائه نَغَم. ثم إن عَرْجتَه خُيلاء، وفي مشيته بهاء. وجهٌ حليق، ومحيًّا طليق. ولقد صارحني ربُّه قائلا: إنه كبشٌ عقيم، لكنه وسيم. انظرْ إلى رموش الحسناء، وابتسامة العذراء. قلت: هداك الله! جئتُ مبتاعا لا خاطبا. قال: هو خروف الشواء بلا منازع، فتوكل على الله ولا تمانع! لكن دَعْهُ على السجية، فإنه نقيُّ الطويَّة. وإياك والأملاح والبَهار، والأَرُزَّ والأَبْزار. والتوابل والمحاشي، وزهرة الحواشي. ولا تكثر الثوم والبقدونس، ولا تُغيِّر طعمه بالكَرَفْس. لكن تَبِّلهُ بالكمُّون، وشيءٍ من الأنيسون، ولا داعي للطَّرْخون. وجَنِّبْهُ الحَرْمَل والحَزَنْبَل. وإن شئتَ صِدقَ القول فإنه حُلو الكِلية، فإما شيّ وإما قَلِيَّة. والكُراع ما شاء الله من كراع! لَيْتها كانت رُباع رُباع. قلتُ: لا غفر الله لك إلى يوم الدين! أتريده أمَّ أربع وأربعين!
قال معوز ثم قلت لصاحبه: لكن ما به هزيل؟ أهُزاله أصيل؟ قال: عوَّدْتُه الصبر على الجوع، والتأسي بخروف قنوع. فدأبُه الجَلَد والاخشيشان، والرَّغب عمَّا في أيدي الخِرفان. وشيمتُه الزهادة، هي لله شهادة. وليس يحرص على عِظَم اللقم، وإنه ليخشى البَشَم، ونِعم الدواء الأَزْم. وما ابتُلِيَ مخلوق بِشَرٍّ من نَهَم، فلا يصرفنك القَزَم. ثم إن السمين ريحُه زَهَم. وإنه ليشكر النِّعَم، فلَهُوَ عندي أفضل البَهَم. نفسُه أبية، ولا يرضى الدنيَّة. لا يُقبِل على علف، إلا إذا ألحَّ صاحبه وحلف. ولا يَرِدُ حتى يُصْدِر الرِّعاء، ويمسك قبل امتلاء الوعاء. وقد أهمَّته الفكرة، وشغلته العِبرة، فلا تَجفُّ له عَبْرة. ولقد أغمَّه حال الأمة، وأجهده عُلُوُّ الهمة. وكيف يستسيغ الطعام وقد علم أن البطنة تذهب الفطنة، وأن الكِظَّة ليس لها هاضوم؟
قال معوز فقلت: يا هذا إني أبحث عن خروف أذبحه، لا خروف أتخذه إماما! قال ثم قلت لمالكه: فكم ثمن هذا الذي لم يقع على مثله بصر، ولا خطر على قلب بشر؟ قال: ليس لِما قرَّت به العين ثمن. فأَرَيْتُه ما معي من مال، فنَشلَهُ وضرب كفًّا على كفٍّ ومال. فلما خلوتُ بالكبيش سألته أتسير وحدَك أم أجُرُّك؟ وإذا بصاحبه يصيح من بعيد: لا تَعْقِلْهُ ولا تضربه بِعُود، دَعْهُ يسرَحْ ويعود! فجاوبته: ولِمَ لا أكون خلفه ويدلني على الطريق؟ أليس مالِكي وأنا العبد الرَّقيق؟؟
قال معوز: فتأبطتُ الكبيش وقصدت البيت على مهل، وكنت طول طريقي أتعوَّذُ من الجدل. وأقول ليت ربة البيت تَقبَل الخروف ولا تسَل. وبينا أنا قاصدٌ البيت، لمحت الكبيش ينظر ماءً في لهف. فأدنيتُه من الماء فعبَّ حتى الثمالة، فكأنه أعطشُ من ثُعالة، وأجوع من ذؤالة، يشكو الخصاصة والعالة. فقلت: هذا وأنت الورِع الزاهد العارف! إن لصاحبك في الشحِّ لطرائف! ثم دخلتُ البيت أجُرُّ الكبيش من قرنيه، أفتعلُ الجرَّ وما أغنى كبيشي عنه. وما إن وقع بصرُ أم العيال على الكبيش حتى وقعت على الأرض مغشيا عليها، ووقع صغيرنا من بين يديها. فأسرعتُ إليها وأهديتها بضع صفعات على خدَّيها، فلما أفاقت من غشْيَتها وأبصرت الخروف قالت: ما هذه الجيفة؟ قلتُ: لحمٌ ما منه خيفة. ما به؟ قالت: إنه أحقر من تراب، بل كأنه سراب. أجئتنا بخروف أم بصوف؟ ما له سَبَدٌ ولا لبَد، وكله زبد في زبد! قلتُ: فهذا المقدور عليه، وهو كما تريْنَ كُبيش بقرنيه. قال معوز فقالت: أطلقْ سراح هذا المخلوق! قلت: لبَّيك وسراحُكِ مطلوق.