قدِم جاري صاحبُ معمل الزيتون من العاصمة للتَّو، لم أرَهُ منذ عام. وما إن وطِئَت قدماهُ البلدةَ حتى توجَّه تلقاءَ مسجد الحي لأداء صلاة القدوم. مرَّ أسبوع الآن على قدومه ولا تكاد تفوته صلاة جماعة، وخلف الإمام كأولِي النهى. وبعد الصلاة يحرص المليونير على مصافحة كل مصلٍّ على حدة. ثم يخرج إلى الشارع فيقابل السابلة بابتسامة عريضة ويحدِّث الناس بعفوية لا مثيل لها. ولا تسَلْ عن كرمه وجوده، فإنه أجود ما يكون أيام الانتخاب، حتى لكأنه حاتم زمانه. وقبل أن يفارق مُخاطَبيه لا يفوته أن يُذَّكِرَهُم بنصرة ابن البلدة، وقطع الطريق على الأجانب والغرباء والانتهازيين والمتسلِّقين. ثم يقول وقد أخذ أمرَه بالأوثق: "وكما انتصرنا في مرات سابقة علينا أن نُحرز النصر هذه المرة أيضا".
نعم كذلك يقول، فمقعد هذه البلدة لا ينبغي لأحد غير المليونير. ولأن المليونير يعرف لجاجتي وكُرهي للسياسة والسياسيين، والأحزاب والمتحزبين، يخصني دائما بمزيد بيان. وَعَدْتُه خيرا، وأكدت له أني سأكون في الموعد، ثم انصرف وهو لا يرى فيما قلت له غير مواعيد عرقوب. لكن ولسببٍ ما قررت أن أخوض مع الخائضين.
وفي اليوم المشهود توجهت إلى مكتب الاقتراع. وبينما أنا في ركن معزول وقد أُسْدِلَ علَيَّ ستار شفاف، تفطنت إلى أني لا أذكر لون حزب صاحبنا ولا شعاره ولا رمزه، ولا حتى اسم الحزب. جمعت الأوراق كلها في ظرف، وألقيتُ الظرف في الصندوق الشفاف. أما الصندوق فقد كان مُعَرَّضا لأشعة الشمس طول النهار، وكان النهار أحد أيام صيف قائظ، فحالت الألوان كلها فصارت لونا واحداً..لوناً باهتا.