اكتِمالٌ وَتَجْزِئَةٌ
قالَ الكُلُّ متباهيًا: أنا مَن بُشّر أهلي بالرّحمة، والفوز السّرمديّ؛ إن ظلّوا تحت كنفي، ولم يحاولوا نتفَ ريش جناحي؛ كي يفلتوا ويلحقوا بسربِ مَن لا يتحملني ويطيقني...
أنا مَن حملَ أتباعي راياتِ الخنوع دون تذمُرٍّ ونُذور؛ لأنّ في تذمّرهم نقصانًا يخلُّ بتوازنِ الأمور، ويُغيّرُ ما في الصّدور، وما كان من تِبرِ الثّبور يُمسي تِبنَ الأجور.
أنا مسطورٌ على قلوبٍ، لا يعرفُ الجزعُ إليها مسلكا، ولا تلقى الشّكوى فيها ملجأ، ولا القنوطُ مرتعا.
سمعتِ الأجزاءُ ذلك، فأغاظتها قلّةُ اعتبارِها ممّا تلقّفت آذانها، وراح كلُّ جزءٍ ينضحُ ما في إنائِهِ في وجهِ الكلِّ.
قال الجزء الأول:
أنا الصّدُّ لأمواجِ الوسوسةِ التي تضربُ بي، وتبغي سحبي إلى بحرِ التّذمّر والمعاصي... تنخر حجارةَ جداري ولكنها، لا تستطيعُ هدمَ سوري، ودخولَ حياضي...
أنا صمتُ الصّراخِ وصراخُ الصّمت... إن تجاوز يومًا ما حنجرتي أبحّها، وأخرسَ حناجرَ الآخرين...
أنا الصّيّادُ الوحيدُ الذي تلتقطُ صنّارتي عوالقَ البحرِ، ولا أغضبُ لعدمِ الفوزِ بالسّمكة... وأظلُّ ألقي بها؛ علّي أفوزُ ذاتَ مساءٍ، بعدَ خسراني في كلّ الأصباحِ...
قال الجزء الثاني:
أنا البحرُ المجهولُ... أعماقي غَورٌ لأصعبِ الأمور، وأمواجي هَمٌّ جَسور، وشاطئي غيرُ مأمون... تصبّ بي ينابيع ذات شجون... أحتضنها ولا أشكو رائحتها... وتمخر عبابي بواخر بشتّى المواد، وندرة العتاد...ولا يدري بثقل الحمولة إلّا ربُّ العباد...
أنا البُعدُ عن كلّ ما يملكه غيري من المحظوظين... أعصبُ العينيين، وأثبّتُ الجوارحَ بأوتادِ أديمِ الزّاهدين؛ كي لا تتمرّد وتفلت؛ مشتهيةً أطايبَ الآخرين؛ فأقعد متحسّرًا في زوايا المحرومين، وأندبُ حظّي مقارنًا إيّاه بحظوظِ الوافرين...
أنا البَرُّ الذي تحتل سهولي أشواكُ وحسكُ النّباتات التي تشمخ، فتذبلُ الزّهراتُ الورديّاتُ، ويصبحن للعطر مصرّراتٍ محسّكاتٍ؛ ليجدَني مَن مرَّ بي؛ املًا الاستمتاعَ بربيعي، قد افترشني يبسُ الجَمال، واعتراني سوءُ الحال، ولكنّي، لكلّ هذا غيرُ مبال.
قال الجزء الثالث:
أنا الرؤيةُ المغايرةُ لرؤية الآخرين... ما يرَونهُ سخطَ القدر، أنظرُ إليه بشذرات النّظر... وتساندني الرّؤيا التي تحزمُ خيوطَ المعضلاتِ، وتعدني بجدل حبالِ المسهِّلاتِ.
أنا الرّسالةُ التي كُتبَت حروفُها بمدادِ الابتلاءِ والمعاناة، ولا يستطيع أحدٌ فكَّ رموزِها؛ إلّا إذا غاصَ في بعضٍ مِن حروفها، وعَلِقَ به أثرٌ مِن مِداد نزيفِها... ورسالتي ليست من الرّسائلِ المطويّاتِ في صناديق مهمَلاتٍ، تعتصرُها لذّةُ أو شقاوة ُالذّكريات.. إنّها رسالةٌ تتطلّب العيونَ اليقظات، والقلوبَ الخاشعات، والألسِنةَ اللهِجات بأقدس الكلمات؛ طمعًا في انقشاع سودِ الغيمات...
أنا الرّضا بما يسكُنُ ذاتي، وإن أدّى إلى غريب الخلجات... أبثّ سرورا أرضي به كثيرَ ذوات، وأكتمُ الحزنَ حُزمًا وذؤابات؛ لأنّ ابنتي القناعة تحدّثني أنّ هذه الحزمَ مصيرُها في إحدى الصّبيحات، المغادرةُ إلى أقصى الزّوايا والجهات...
أنهتِ الأجزاءُ استعراضَها،وتباهيها، وعادت يلملمُ بعضُها بعضا، من يَمينِها لِشِمالِها، فأعادت الصّادُ والباءُ والرّاءُ لَحْمَتَها؛ بعد أن أظهرت أنّ قيمةَ الكلِّ من قيمةِ الأجزاء...
وقفَ الكلُّ مغتاظًا بسبب التّجزئة... وهو الذي يقف باكتماله جبّارًا ممتصًّا كلَّ الصّعاب، ونفسُه تسوّلُ له التّقليلَ من قيمة الأجزاء، بالتّفكيكِ ثانيةً، وإعادةِ جمعِها من شمالها ليمينها؛ ليريها فلسفةً غيرَ فلسفتها التي تباهت بالتّجزئة!... لكنّه، انتبه لكون الأجزاء والكلّ حقيقَتَه التي يعتزُّ بها!... فتراجع وهتف:
إنّني أنا الكمالُ، وإن بدا ظاهري شوكًا يخزُ أفئدةَ، وجلودَ مَن يعايشُني، وطعمي مُرًّا يُفسدُ حلاوةَ فمِ مَن يتذوّقني... فإنّ باطني حلوٌ مذاقُه، سهلٌ اغترافُه، وأبديٌّ هناؤُه لمن استطاع الصّمودَ، وحفظَ العهود؛ أمَلًا بأن يَحظى برضا الرّبِّ المعبود، وتحقيقِ المنشود.