لم أكن أعتزم الخوض في قراءة أشارك بها غيري لهذه القصيدة، وقد تجاوز انفعالي بها ومعها طاقة مفردتي على الحمل، لكن تعليقا للرائعة كاملة بدارنة استوقفني، فقد نطقت القصيدة بأحاسيس أسير حقيقي، وحملت شجنا صادقا ومعاني لم تنجح درر البلاغة وجمال التراكيب وهذا الألق الأدبي الذي غمر النص بشد انتباهنا عنها.
هي بلا شك تجربة انسانية صادقة عايشها هذا المقدسي وعاناها ، بما عاشه من حوله من الأهل والأصدقاء، حيث لا يكاد بيت في فلسطين يخلو من سجين أو مبعد أو شهيد او جريح فاستشعره، وودقه سحاب شعره بكل هذا العمق، حاملا القاريء بمهارة ليعبر الأبواب المغلقة والقضبان الغليظة ويقف به مع السجين هناك يساكنه ذلك الظلام حيث الوحدة والغربة والألم، يتأمله ويعايش تجربته
ابتداء من العنوان كان الشاعر موفقا في توصيل الرسالة الأولى، فمن ستقابلون هناك ليس الضعف والاستسلام، ولا العجز والهوان ، وما سترون من ألم ليس دليل نهاية ولا علامة موت.
ويقف مطلع القصيدة من هذا المنطلق بلاليّ التحدي، بيّن العزيمة صادق الموقف لا توهنه صخرة الكفر على صدره ولا جبروت خصمه ، يصف السجن بأدق وصفه وأذكى المفردة تعبيرا عنه
السّجنُ كفرٌ كمـا الأَغـلالُ كُفّـارُ
أَعمى البصيرةِ خيرَ النَّـاسِ يختـارُ
وفي لسان العرب
وكفَر نعمة اللَّه وبنعمة اللَّه كُفُورًا وكُفْرَانًا جحدها وسترها.
وكفَر الشيءَ يكفِرهُ ( أو الصواب يكفُرهُ بالضم ) كَفْرًا وكُفْرًا سترهُ.
والفاعل منها كما في المحيط كافر
الكَافِرُ : فاعل والجمع كُفَّارٌ وكَفَرَةٌ
الكَافِرُ بالشّيْءِ: المتبرِّئُ منه؛ هو كافرٌ بمبادئ هذا الحزب.
الكَافِرُ: المقيم المختبئ بالمكان؛ هو كافر في صومعته
الكَافِرُ: الظُّلْمَةُ
فهي إذا الكلمة المفتاح في القصيدة التي
والأَسرُ قبرٌ ومنْ في الأسرِ يعرفُـهُ
الموتُ يدنـو وتدنـو قبلَـه النَّـارُ
والقيدُ منفـىً فـلا زوجٌ ولا ولـدٌ
غابَ الصَّديقُ وعزَّ الجـاهُ والجـارُ
صورة جديدة، بل صور متتالية تؤكد على المقولة الأولى بما تعبر عنه من ظلمة وحجب للسجين عن الكون بضيائه وضوضائه، فالقبر يكفر ساكنه كما يكفر السجن ساكنه، لكنه في السجن يلاقي جحيما آخر يزيد في قسوته حيث يدنو الموت والنار بما يلاقي السجين من عذاب وويلات، وما يعيش من غربة وتوحّد وصمت مطبق
للهِ أَشكـو إِذا يأْجـوجُ قـدْ فُتِحـتْ
وداهمتنـي مـعَ الأَوهـامِ أَفكـارُ
حفرتُ بابًا إلـى أَهـلٍ سيوصلنـي
عبرَ الجدارِ وظفرُ الشَّـوقِ حفَّـارُ
تنامُ عيني وعيـنُ القلـبِ مُسْهـدَةٌ
وجيـشُ مأْجـوجَ فَـرّارٌ وكَـرّارُ
ولأن مساحة القراءة تضييق عن تفصيل ما في القصيدة من مجاميع مذهلة من الصور والمشاهد الإنسانية الحيّة، فلن اقف عندها جميعا، ففي كل شطر صورة وأكثر، وفي كل تركيب إبداع جديد ولوحة لغوية باهرة التناسق اللوني برغم الدرجة القاتمة لألوانها...
ومنها هنا ما تقدم من أبيات تستعير من اللفظ القرآني اسما يفتح مجرد ذكره آفاقا لا محدودة من القلق والتوجس، تقديما لأوهام تداهم السجين فتكويه بنار الشوق وقسوة الجدر والأسوار وبعد الأحبة والصحب والسمّار...
مع اني لم أتحمس كثيرا لصورة تقول حفرت بابا عبر الجدار، وقد تصورتها أكثر جمالا لو كانت حفرتُ بابًا إلـى أَهـلٍ سيوصلنـي
طوع الخيال وظفرُ الشَّـوقِ حفَّـارُ
فهو محفور بظفر الشوق الذي لا يحفر في غير وهم.
وحدي، وهذانِ حولي، ليسَ غيرُهما
يُصغي إِليَّ، هُما والضِّيـقُ سُمَّـارُ
يا صاحبـيَّ، أَلا فتـوى فأُدركُهـا؟
في ذاتِ رؤْيا، أَلا مُفْـتٍ وبشَّـارُ؟
وباستعارة جديدة من القرآن الكريم معنوية هذه المرة، نجد للسجين الأكرم من سجانه وسجنه ومن فيه صاحبين ثالثهما الضيق فمن هما؟
وما هي الرؤيا التي يستفتي يوسف القصيدة فيها صاحبيه؟ وهو هنا مستفت في رؤياه لا مفت في رؤيا غيره...
ثم .. لماذا أسقط شاعرنا صاحبه الثالث من حواره هذا ما دام أعلن من لابداية أنه سميره معهما؟
إِنِّي أَراني كمنْ قدْ كانَ فـي نَهَـرٍ
دونَ السَّفينـةِ والإِلـهـامُ بـحَّـارُ
ماذا تقولانِ في الأَضغاثِ تحملنـي
بِلا جنـاحٍ وثـوبُ الليـلِ ستَّـارُ
إِلى هنالِكَ حيـثُ العيـنُ شاخصـةٌ
عينُ الأَحبّةِ فيهـا التَّـوقُ إِعصـارُ
أَهوي إِليهـمْ علـى أَطـلالِ أَفئـدةٍ
يقـودُ روحِـيَ إِقـبـالٌ وإِدبــارُ
أَخشـى علـيَّ إذا أصحـو فقدّتُهُـمُ
فالحلمُ وهمٌ ومثـلُ البحـرِ غـدَّارُ
وهل يحلم الأسير بغير الأهل والديار ، وهل يهوي قلبه لغير أحبته يستحضرهم ويعيش بأطيافهم وذكرياته معهم..؟
فرؤياه معلومة الموضوعة ومجهولة التفاصيل، ورعبه أن يغدر به وعيه فيستيقظ من وهم الذكرى ومعايشة الأطياف
يا صاحبيَّ ومنْ لي اليومَ غيرُكمـا
أَنتَ الظّـلامُ وهـذا التّـوأَمُ الغـارُ
يا أَيُّها الغارُ قدْ ضاعَ الشَّبابُ وقـدْ
حلَّ المشيبُ ومـا للشِّيـبِ أَعـذارُ
ويا ظلامي، صديقي رغمَ قسوتِـهِ،
فالحضنُ تُرْبٌ وإِن الصَّدرَ أَحجـارُ
الظلام والغار ....
ويا لهما من صاحبين لا يجتمعان والضيق إلا عند مكلوم مستوحش تعتصره الوحده ، ويأكله الصبر ويضنيه العذاب وغياب الأنيس والافتقار للجليس
والظلام كافر .. والسجن كفر
ألم يكن هذا الصاحب هو ما/من استهل به شاعرنا قصيدته
فلتسمعـا لحديـثِ الهـمِّ أَســرُدهُ
كونا النّصيرَ فما في الكونِ أَنصـارُ
قدْ تفهمانِ جنوني والضَّيـاعَ وقـدْ
لا تفهمانِ.. وسـدُّ الصَّبـرِ ينهـارُ
ويفتح الشاعر لصاحبيه صفحة قلبه ، ويحكي مواجعه في لغة قوية وصور بلاغية آسرة وتراكيب تقف عند كل منها لتقرأ في ثناياها قصيدة كاملة بحسها ومعانيها
حلَّ المشيبُ /مُحيطٌ عظيمُ الموجِ / فـي اليـمِّ أَسـرارُ / جيـوشَ المـوتِ زُوّارُ /غلاظًا على الأَجسادِ قدْ جاروا / الأَمجادِ إِذْ فُقِـدَتْ / سيفِ جدّي / وغمـدٍ لفّـهُ العـار / خيلي / العـدلُ
ولعل كلّ استخدام كان سرا بلاغيا مستقلا
فلماذا يخبر الغار عن ثقل ليله وما فيه من رعب وهول، وعن ضياع الشباب وحلول المشيب؟ وفرار العمر منه ؟
لماذا الغار وليس الليل؟
ولماذا يستذكر والظلام تاريخ الأمة وأمجادها وضياعها، وعن العدل الضائع ومعاناته وغيره ؟
كان شاعرنا هنا انتقائيا فيما يخبر به صاحبه مما يليق الحديث به معه، وما يوصل للقاريء به حسا نوعيا، مرتبطا بهذا الدمج أو المواءمة
لكنهما صامتان ، وهل ينطق صاحب خلقته الوحدة إلا أن تكون لوثة أصابت محدثه،
يا صاحبيَّ كواني اليـومَ صمتُكمـا
إِنَّ السّكوتَ عـنِ الطُّغيـانِ أَوزارُ
ولأن صاحبنا ظل في أسره كبيرا شامخا برغم ما يعيش من قتل متواصل لمقومات انسانيته، فقد انتقل في حواره لذاته يشكو لها صاحبيه
وصاحباي، ودائِي مـنْ دوائِهمـا
هـذا أَصـمُّ وذا أَعشـى وخـتّـارُ
هذانِ ويحي وقـدْ خاسـا بعهدهمـا
وليسَ ينفعُ جـرحَ الغـدرِ عطّـارُ
ويعود بنا للتناص المعنوي مع النص القرآني في قصة نبي الله يوسف الصديق، فيذكرنا بالقصة العبرة التي وصفها الباري جل في علاها بـ "أحسن القصص" ويحدثنا بتحوير ذكي عن
نفسي حنانيـكِ لا كـرمٌ فنعصـرُهُ
وشعرُ رأْسي لِطيرِ المـوتِ أَوكـارُ
حتّى الكواكبُ في أَحلامنا اندثـرتْ
والشّمسُ ولَّتْ وولَّى البـدرُ والـدّارُ
لا عن عفوية ولا عن توافق الموضوع، كما قد تُظهر قراءة سريعة مستعجلة للنص، ولكن عن نية الربط بين يوسف القصيدة مجسِّدا فيه كل أسرى الاحتلال الاسرائيلي، وبين يوسف الصديق الذي اغتيل شبابه وسلبت حريته في مرحلة كانت منطلقه ليصبح عزيز مصر
ومن هنا يعود لنفسه يقويها ويحذرها من مغبة الاستسلام لأوهام تضعفها
يا نفسُ مهلًا فلا يفْتِنْـكِ فـي ختَـلٍ = شيطانُ نزغٍ، هي الأَحـداثُ أَقـدارُ وَقِي السُّقوطَ كنسرٍ عاشَ فـي قمـمٍ = وَعِي حروفي فهُنَّ اليـومَ أَحـرارُ
ويعزّيها بالعزيز الذي عاش ما تعيش
مذْ عهدِ يوسفَ والسَّجـانُ منهمـكٌ = في قهرِ يوسفَ والأَحـزانُ سُعَّـارُ
ويمدها بالأمل الذي يعيد لروح القاريء جذوة الحياة التي كانت تخبو شيئا فشيئا خلال التنقل في ألم أبياته الشعرية الناطقة
لكنَّ ربَّـكِ مـنْ أَسـرارِ حكمتِـهِ
إِنْ شاءَ تنْمُ خلالَ الصَّخـرِ أَزهـارُ
لذا فقرّي عيونًـا إِنْ بكـتْ ذرفـتْ
جمرًا وسالتْ كما البركـان أَنهـارُ
لوذي بصبرٍ فما دامتْ لمنْ سبَقـوا
والدّهـرُ يومـانِ إِنَّ الدَّهـرَ دوَّارُ
وذا الـزَّوالُ لقيـظٍ حـانَ مغرِبُـهُ
صُمْتِ النَّهارَ وبعدَ الصَّـومِ إِفطـارُ
وفي خاتمة مزلزلة ينتقل ليصبح ثائرا من جديد فيهدد الليل بكل ما يمثله الليل من معاني الطغيان والاستعمار والظلم والألم
والليلُ يمضي وإِنْ طالـتْ دقائقُـهُ
يا ليلُ فاحذرْ جنودَ الفجرِ إِنْ ثـاروا
لقد نأى شاعرنا بقصيدته عن الرموز المتعددة وسوريالية الصورة، واكتفى بالرمز الضمني في قصة يوسف وتفاصيلها، ورسم لوحته العملاقة بنص مترابط بديع السبك ملفت في تماسكه واسترسال فكرته برغم طول النص وعمقه وصعوبة الموضوع
كنت هنا أمام قصيدة من عيون الشعر تستحق قامة أدبية توليها قراءة أكثر عمقا
بل وتستحق قراءة نقدية يتولاها ناقد صاحب باع ودراية، يكون بحجم النص ليجيد خوض غمار بحره، ويسبر الجمال في أعماق معلقة تجيش بالمشاعر ليحدثنا عن العاطفة والخيال الذان تألق شاعرنا برسمهما، في قصيدة أحسن توظيف مفرداتها وأبدع في تراكيبها.
كان هذا ما خطر لي في خطوي البطيء المتأمل بين أبيات من الشعر لم أجد بينها واحدا لم يستمهلني على عتبته ، وهو دعوة للأقلام الناقدة لقراءة نقدية في قصيدة تستحق قراءات