القصة الشاعرة
لا تتوقف المسيرة الأدبية عند حدٍّ مُعين أو عند تجارب معدودة ولكنها دائمة التطور ، و توقف هذا التطور الأدبي يؤدي إلى حالة من الجمود والركود الذي يؤدي بداهةً إلى احتضارٍ ثم موتٍ أدبي مُحقق ، ولذلك كان الأدب في تطور دائم ومستمر ..
هذا التطور قد يكون سريعاً أو بطيئاً وهو قد يكون تطوراً في الأسلوب بظهور مدارس أدبية جديدة على غرار الكلاسيكية والرومانسية ثم الواقعية والفنية والبرناسية والوجودية ومدرسة اللامعقول وانتهاءً بالبنيوية والتفكيكية وغيرها ، وقد يكون بظهور أجناسٍ أدبية مختلفة من شعرٍ ونثرٍ فني ومسرح وقصة و رواية وقصيدة نثر ، هذه المدارس والأجناس الأدبية المختلفة تؤدي إلى إثراء الحياة الأدبية سواءً كانت هذه المدارس والأجناس تتفق أو تختلف مع الرؤى الفكرية للناقد وسواءً كانت تتوافق أوتتنافر مع أمزجة المتلقين ، وفي الفترة الأخيرة ظهر جنس أدبي جديد يُعرف بالقصة الشاعرة والتي قام بتدشين حجر أساسها وتأصيل منهجها الأديب الشاعر "محمد الشحات محمد" في أعمالٍ إبداعية ونقدية تحمس لها الكثيرون وإن هاجمها آخرون لا عن رؤية مُخالفة وإنما كان محور الهجوم مُنصباً على افتراضٍ متوهم وهو وجود هذا الجنس الأدبي في تراثنا الموجود بين أيدينا ..!!
ونحن نرى أن هذا الهجوم من باب الفصام الثقافي الناتج عن قراءة النصوص بمنظورٍ أُحادي وبأحكام مُسبقة .. ، هذا الفصام يظل مشفوعاً بالجهل والتسرع كما يظل مشفوعاً بالغيرة والحسد ، ولذلك نحن نحتاج إلى تفسير مُوجز للقصة الشاعرة كجنسٍ أدبيٍ جديد
القصة الشاعرة عبارة عن إبداعٍ يعتمد على الإيقاع التفعيلي الشعري بعددٍ غير محدود من التفعيلات ينتهي بقافيةٍ وحيدة ، ولا يتضمن حشوها تسكين (بدون أداة جزم) وهي تعتمد على التدوير مُتخذةً القصّ منهجاً مُتخفياً في القناع ومتستراً برمز مُتعدد الدلالات يبرز فيه دور المتلقي كمنفعل وفاعل للحدث في الوقت نفسه ، ولذلك فهذا الإبداع لا يُسمَّى شعراً ولا يُسمَّى قصة
لأن الشعر بجميع مدارسه لا يتفق مع القصة الشاعرة إلا في الإيقاع ، فالقصة الشاعرة تختلف تماماً في الصياغة والبناء كما تختلف في الموضوع والتناول ، وهذا ينطبق إذا نظرنا للشعر نظرة موضوعية ،
فالشعر العمودي تكون وحدته البنائية البيت الشعري بشطريه ، ومن هنا ظهر مُصطلح بيت القصيد .. هذا البيت أو الأبيات يظل عالقاً في ذهن المتلقي والناقد كقول المتنبي "إذا لم يكن من الموتِ بدٌّ ... فمن العجز أن تموتَ جبانا"
والشعر التفعيلي تكون وحدته البنائية السطر الشعري عند جيل الرواد أمثال صلاح عبدالصبور ، وقد تكون وحدته البنائية التفعيلة الشعرية عند آخرين ، فتصبح القصيدة وقد علق في ذهن المتلقي سطر شعري كقول عبدالصبور "الناس في بلادي جارحون كالصقور" أو تفعيلة كقول أمل دنقل "لا تصالح" أو بمعنى آخر سطر القصيد وتفعيلة القصيد ،
وقصيدة النثر أولاً تخلو من الإيقاع وثانياً لا يعلق في ذهن المتلقي غير معنى فضفاض متأرجح يصنعه المتلقي ولا يطمئن إليه
أما القصة الشاعرة فهي كالماء لا تستطيع أن تُمسك أوله حتى تأتي عن آخره ، والمتلقي الواعي يُدركُ دلالاتها المتعددة أما المتلقي البسيط فهو يدرك دلالة وحيدة حتى تمسك بتلابيبه
هذا من ناحية الصياغة والبناء ، أما من ناحية الموضوع ، فالشعر العربي لا يخلو من الدراما لكنه لم يتشرب القصة ، فالدراما موجودة عند جميع الشعراء السابقين واللاخقين بدء من عنترة وابن أبي ربيعة ومروراً بغبد الصبور وبدر شاكر السياب وانتهاءً بشعراء معاصرين لكن الدراما شيء والقصة شيء ، فالدراما في الشعر لقطة أو لقطات يوظفها المبدع أما القصة التي يتبطنها الشعر وتدور في جميع أركانه بحيث تكون جزءً من العمل الإبداعي فهي نادرة في شعرنا و وجودها لا يدل على وجود القصة الشاعرة في تراثنا وإنما يدل على وجود البذرة التي لا ننكرها ، فوجود الدراما شيء وتأصيلها بحيثُ تكون ركناً من العمل الإبداعي شيءٌ آخر
فالشعر القصصي عند خليل مطران رائد الشعر القصصي يختلف عن القصة الشاعرة عند محمد الشحات محمد رائد القصة الشاعرة ..
الشعر القصصي شعر له موضوع .. هذا الموضوع تاريخي قصصي تمت صياغته شعراً فهو شعرٌ في المقام الأول والأخير ..، أما القصة الشاعرة فهي حدثٌ شعريّ بكل ما تشمله الكلمة من احتوائها على تقنيات الشعر والقصة معاً
ولذلك إذا ما قرأها المتلقي الجاهل بأصول الشعر والإيقاع فإنه يعتبرها قصة لكنه يظل يتموسق مع أنغامها ، وهذا بطبيعة الحال لا يتوفر لقارئ الشعر القصصي
أما القصة القصيرة فهي فنٌ يختلف تماماً عن القصة الشاعرة ، فالقصة القصيرة تخلو تماماً من الإيقاع وكثيراً ما تكون أُحادية الدلالة أو غامضة الدلالة
والمسرح الشعري بطبيعته فنٌ مُختلف ، فهو يعتمد على السطر الشعري كما يقوم على تقنيات مسرحية معروفة لا تتفق مع القصة الشاعرة والتي هي بطبيعة الحال تختلف عن المسرح النثري ،
وفن المقامة هو فنٌ عربي أصيل وهو الأبُ الشرعي للقصة الفصيرة وإن قام بتطويرها والدعاية لها أدباء الغرب لكنها تخلو من الإيقاع و تلتزم السجع والتسكين
وختاماً .. نُنبهُ إلى أمرٍ هام وهو أن القصة الشاعرة جنسٌ أدبي جديد وليست جنساً أدبياً بديلاً او وحيداً ، فنحن مع تعدد الأجناس الأدبية التي تثري أدبنا المعاصر مع ملاحظة أن الجديد دائماً يؤدي إلى أن تدبَّ الحياةُ حتى في الأجناس القديمة والسائدة ، ولا بد أن تتسع صدورنا لكل جديد لاسيما وأن هذا الجديد يرتكز على جذورٍ عميقة من الأصالة .
د.خالد البوهي
شاعر وناقد
(منقول)