مسلمةٌ سنيَّة ,,, هكذا وُلدت .
فلسطينيَّة ,,,أسكنُ في مخيّمٍ صغيرٍ للاجئينَ بلبنان ,,هكذا وجدتُ نفسي .
وكنتُ صغيرة .
وكانَ بيتُنا, أو ما يُسمى بيت! ~ شأنه شأن كلّ بيوت اللاجئين ~,يجلسُ القُرْفصاء في وسطِ المخيّم تقريباً ,,وما زال .
وكانَ أمامهُ ساحةًً صغيرةً مشمسة, لكنَّها اختفت اليوم, بسببِ زحفِ المنازل,~ أو ما يُسمّى منازل! ~.
وكانَ جدّي رحمه الله, يهوى الجلوسَ في تلك الساحة ,جالساً على كرسيٍ صغيرٍ خشبيّ بدون مسند ,سانداً ظهرَه للحائط ,واضعاً حولَه عدداً من تلك الكراسي لاستقبالِ الأصدقاء من الذاهبين أو الغادين على الطريق .وكلُّ سكان المخيم أصدقاء !.
وكانت هذة الفسحةُ المشمسة تجذبُ البائعين المتجوّلين ,فينضمون لجدِّي في جلستهِ ويتحدّثون .
مرَّة من المرَّات الغريبةِ النَّادرة ,اجتمع هناك ثلاثةٌ من هؤلاء الباعة إلى جَدِّي .
رجلٌ كبير السِّن من الشيعة,, كان يُحضُر الخسَّ والبندورة على حماره ,وامرأةٌ مسيحيَّة,, تبيعُ ملابسَ الأطفالِ والنِّساء في عربةٍ تجرُّها بيديها على دولابين ,ورجلٌ آخر كبير السِّن أيضاً من الدروز,, يبيعُ البُهارات التي يحملها في سلةٍ كبيرة على ظهره .
مخيّمُنا كانَ وما زال, سوقا جيّدةً للباعةِ الفقراء ,~نحنُ شعبٌ ليسَ عندَنا أيّ شيء ,سوى بضعِ دريهماتٍ يكسبُها الرّجال بشقِّ الأنفس~.
دارَ حديثٌ بين هؤلاءِ الأربعة,, (حديثٌ دينيّ) .
فتكلَّم الشيعيُّ عن كربلاء, والحجر الذي أحضره من هناك ليصلّي عليه ,و,,,و,,وكان في غاية السرور .
وتكّلمت المرأة عن السيّد المسيح ,وعودتِه القريبةِ المرتقبة ,,وأشياء أخرى ,وكانت دائماً تقول للمجاملة (كلّنا أولاد الله) , فتثيرُ الضوضاءَ والإحتجاج .
وتكلَّم الدُّرزيّ عن التّقمُّصِ بعد الموت ,وأعلنَ رغبتَه بالموت ,ولهفتَه ليعود للحياةِ شاباً قوياً وجميلاً بشعرٍ أسود وعضلات,,, كما كان يوماً .
وجدّي يحتجُّ على الشيعة , ويؤكّدُ على وجوبِ عقد الذراعين وقت الصلاة ,اليمين فوق الشِّمال .
كانوا يتراشقونَ بالحديث , كما يتراشقُ الصُّبيانُ بالماء !
وكلّما تكلَّم أحدُهم, يضحكُ الباقون بابتسامةٍ عميقة, معتقدين أنَّها سرِّيّة ,فتغوصُ عيونُهم وتحمرُّ وجوهُهم حدِّ الإحتقان ,مبتلعين غضباً, واستهزاءً, وبهجةً وضحك .
أنا لوحدي,,الطفلة الصغيرة ,, كنتُ أراقبُ ولا اتكّلم,, لكنّني كاشفةً أسرارَهم وضحكاتَهم واستهزاءَهم ,فكلّ منهم يعتقدُ أنَّه على صواب, والغير على خطأ.
وأخيراً,, انفجرَ الموقفُ ,وشرعوا جميعاً يتكلمونَ في وقتٍ واحد, لا يسمعَ أحدٌ منهم الآخر ,وانقلب الحوارُ مضحكاً,, كحوارِِ الطّرشان .
ولم يعد ينقصهم إلا أن يجعلوا من ساحتنا المشمسة المتواضعة , ساحةً للمصارعةِ الحرَّة .
عندما كبرتُ وفهمت,, وجدتُ نفسي ما زلتُ أضحكُ على ذلك الموقف الرائع ,وتلك المسرحيّّّة التي كنت أنا لوحدي هو الجمهورُ كلّه ,وربما بعض المارَّة الذين يسمعون شيئاً وتغيبُ عنهم أشياء.
أشهدُ الآن أنَّهم كانوا يدورون حولَ نقطةٍ واحدة ,وينظرون في عينٍ واحدة ,هي عين الله الواحد .ولكن كلٌّ بطريقةٍ تختلفُ قليلا عن الآخر, وقد كانوا يظنُّون هذا الإختلاف البسيط كفراً, وعبثية, وخطأ لا يغتفر .
ومات جدَّي,,,
وأعتقد أنَّ الثلاثةَ العجائز قد ماتوا,,رحمهم الله جميعاً ,,
لكنَّهم للأسف ماتوا قبل أن يفهموا!!
أما أنا,, فقد كبرْتُ وفهمت.
ليت شعبنا كلّه يكبرُ ويفهم , ليتنا نكبرْ ,,
ليتنا
ماسة