حكاية صورة
مدّ يداً مرتعشةً إلى الصورة الملقاة فوق مكتبه ، ومسح بالأخرى ما علاها من التراب ، رفعها أمام حشد من الرجال الصامتين طالباً منهم أن ينظروا إليها ، خنقته الحسرة ، وغلبته الدموع ، ولكنه كان متماسكاً.. بالله عليكم ، انظروا إلى (بيسان) ، هذه هي ابنتي الكبرى في عمر الورد ، وهذه اختها (مايا) ، وتلك (أمل) أصغرهنّ. هل أحد منكم لا يعرفهن؟ثلاثة أسابيع والطبيب عزّالدين منهمك في أداء واجبه الوطني في مستشفى الشفاء بغزّة ، حيث أنقذ حياة الكثير من المصابين أثناء القصف المجنون ، كان بودّه كلما عالج طفلاً أن يتصل بأسرته ليسأل بيسان عن أختيها ، ولكن بشاعة القصف ، وقسوته ، وتواصله ، كان يحول دون هذه الرغبات الصغيرة. وذات قصف محموم جاءه صوت مايا من خلال الهاتف الجوال: بابا حبيبي ، كيفك؟ أخيراً سمعنا صوتك ، لا تقلق ، نحن بخير ، نعلم ظروفك ، ربنا معك ، أطفال غزّة بحاجة إليك. كلماتها هزّته من الأعماق ، تجلّد حتى انتهت مكالمتها السريعة ، التي اختلط فيا صوت القنابل ، بأزيز الطائرات ، وهدير الدبابات. حين التحق بجامعة القاهرة لدراسة الطب ، كان يمنّي نفسه أن يرعى في المستقبل أسرته الصغيرة طبّياً على نحو مثالي. سأتابع نمو أطفالي ، سأنظم طعامهم وشرابهم ، سأعمل المستحيل لحمايتهم من الفيروسات والأمراض المعدية. سيحمل أول أبنائي اسماً مميّزاً ، وليكن بيسان ، الله، اسم جميل ، ولكنه مكان في شمال فلسطين ، ونحن في أقصى جنوبها ، ولم لا؟ لا فرق بين شمال وجنوب ، وشرق وغرب ، فالوطن واحد ، والرب واحد. ما زال عزّالدين يرفع الصورة بيده المرتعشة ، ويقول: بالله عليكم، كيف يقوى إنسان على كراهية بيسان؟ كيف يستطيع إنسان أن يقاوم محبة مايا؟ هل رأيتم صغيرتي أمل وروعة ضحكتها ، وجمال ضفائرها ، ورشاقة خطوها...؟في الخلف ، بدت من نافذة المكتب أكوام الحجارة المتناثرة ، وبقايا الأثاث والأمتعة المبعثرة ، وأطفال صغار يستوطنهم الذعر ، وتطل الدهشة من عيونهم ، وعلى وجوههم أسئلة كثيرة حائرة. استحلفكم بالله أن تقولوا شيئاً، صمْتّ مطْبق كصمت القبور يلفّ الجميع ، كأنهم اتفقوا من قبل على أداء هذا المشهد ، وتدربوا عليه طويلاً ، لكن وجوههم تفصح عن الكثير. ربما يكون الصمت - أحياناً - أبلغ من الكلام. دعْهم يا عزّ الدين ، لا تسلْهم عن صمتهم ، سلْهم عمّن سرق الكلام عن ألسنتهم ، واغتال براءة أطفالهم. هذا أوان العمل لا القول. لي الله ، فهو حسبي وحسبهم. ولكن..آه، لوْ لمْ يصمت النظام العربي الرسميّ عشرين يوماً لما ماتت بيسان، لو لم يصمت النظام العالمي عشرين يوماً لما ماتت مايا، لو ظلّ الشارع العربي يصرخ ، ويصرخ لما ماتت أمل، أرجوكم ، يكاد صمتكم يقتلني.لم ينبس أحدهم بكلمة ، ولا تحرك أحدهم خطوة ، تسمّروا في أماكنهم ، شلّت الكلمات إرادتهم ، تمنّى لو عانقه أحدهم ، ما أحوجني إلى كتف أبكي عليه، من يعوّضني منكم صوت أمل ، وهي تتهجّى أبجديتها بصعوبة؟تذكّر حين غلبه النوم ذات ليلة جُنّ القصف فيها ، بعد أن أمضى يومين من العمل المتواصل ، والأطباء العرب المتطوعون يقفون منذ أسبوع على بوّابة معبر رفح المغلق ، ينتظرون السماح لهم بالدخول لمساعدتهم. رأى فيما يرى النائم أنه حمل بعض أشتال البرتقال الغزّي ، ومضى بها إلى طرف غزّة البعيد ، حيث وجد الكثير من الرجال منهمكين في زراعة أشتال الليمون والبرتقال ، ومنْ فرغ منهم أخذ في صبّ الماء حول ما زرع ، وبحرْص شديد زرع ما حمل ، وحين بحث عن الماء ليسقيها لم يجده ، ركض في كلّ اتجاه بحثاّ عن قطرة ماء حتى خارت قواه ، وصحا من نومه مذعوراً ، مرهقاً ، وقد جفّ حلقه ، فاستعاذ بالله ، وواصل صحوه.صرخ فجأة: أفيكم من يفسّر لي ما رأيت؟لم يفهموا شيئاً مما يقول ، ولا دروْا عمّ يسألهم ، وأشفقوا عليه ، فما زالت الصورة في يده المرتعشة ، وما زالت دموعه تغالب كبرياءه وتجلّده.. - همس أحدهم: الرجل فقد عقله ، وبدأ يهلوس. - كان الله في عونه ، مصيبته كبيرة. - ما العمل؟لم يسمع شيئاً من همْسهم ، دسّ الصورة بعناية في جيبه ، وقال لهم في رجاء: أريد أن أزور قبورهم. تحرّكوا وكأنّهم رجل واحد ، لا صوت سوى صوت وقْع أقدامهم. المدهش أنه بدأ يتقدمهم ، ويمضي في الاتجاه الصحيح ، وفجأة توقف قائلاً: أظنّها هنا. نعم ، هي كذلك. هنا زرعت شتلات البرتقال ، وعزّ عليّ الماء. أرجوكم ، أغيثوني بشيء من الماء. لم يسألوه شيئاً. هبوا من حوله ، وأحضروا له ما تيسّر منه ، وظلّ يصبّ الماء فوق قبورهن ، وهو يبكى بصمت ، ويتمتم بكلام لا يفهمه إلاّ الله والراسخون في محبة أوطانهم.
كاتب وأستاذ في جامعة البترا.
Date : 06-02-2009