وشوشة في العشّ
تسربلت الأغصان العارية بخضرة أوراق الّربيع، التي أورقت أيّما إيراق، فأغرت اليمامتين اللّتين طال انتظارهما، بوضع أسس بيتهما الجديد، فاختارتا أكثر الأمكنة ثباتًا وأمنًا ، وأرستا القواعد. وما هي إلّا أيام قليلة حتّى أًنجز العمل بإتقان ودقّّة، لتتربّع أنثاهما على عرشه وتضع بيضتين، احتضنتهما ورقدت عليهما طيلة الوقت؛ خوفا وحرصا عليهما من نسمات الرّبيع الباردة.
انتهت أسابيع الاحتضان فاستقبلت مملكة الطّيور أميرين جديدين!
مرّت ريح بالقرب من عشّ الفرخين، فاهتزّ العشّ، واعتقد أحد الفرخين أنّ دعائم بيتهما ستتقوض – لم يدرك أنّ والديه اللّذين راحا يحضران لهما الطّعام قد أحكما البناء – فالتصق بأخيه وسمّر الاثنان أرجلهما أسفل بطانة العشّ.
توقف اهتزاز الغصن بُِعَيد دقائق، فسادَ المكانَ هدوء حذر، كسر حاجزه الفرخ المنزعج من الرّيح موشوشا أخاه:
متّى سيكبر جناحانا لنستطيع التّحليق عاليا مرتاحين من هوج الرّيح التي تغافلنا بإزعاجها وتعرضنا وبيتنا للخطر؟!
تمهّل الفرخ في الإجابة ليشعر أخاه أنّهما في مأمن، وأن لا داعي للخوف.
أنا لا تزعجني نوبات صرع الرّيح، فهي لا تقصد إيذاءنا. تغدو وتروح معولة؛ لأنّ هذا هو نمط حياتها. فما الذي يضايقك في الأمر؟
بدت أمارات الدّهشة على الفرخ ممّا سمع وأجاب:
ألا تتضايق عندما تشتدّ الرّيح وتعرّض بيتك للهدم؟ ألا تخاف على مشاعر أمّنا وقلقها حيالنا، وهي تجوب الآفاق، وتنبش الثّّرى، بحثا لنا عن طعام يقوّي عظامنا ويكسوها لحما وريشا؟
تمهّل الفرخ الذي أنصت لكلام أخيه وردّ:
لا أتضايق كثيرا ممّا ذكرت، لأنني أدرك أنّ عشّنا آمن ويصمد في وجه الرّيح، وطعامنا آت، لأن والدينا يعرفان أنّ فرخيهما لا يزالان غير قادرين على كسب قوتهما. ولكن، ما يضايقني هو ما يدور بفكري عمّا سيحدث بعد تحقيق أمنيّتك بمغادرة عشّنا!
استغرب الفرخ إجابة أخيه وسأله:
كيف لك أن تخاف من حرّيتك ومن مقدرتك على العيش كما يحلو لك؟... أوَ لا تثق بنفسك لتحقّق ما تريد؟...
ابتسم الفرخ ابتسامة ساخرة لسذاجة فهم أخيه للأمور وقال له:
سأحدثك بالتفصيل ممّا أخشى.
عندما سنطير – بعد أن نتعلّم ذلك – أخشى عليك وعلى نفسي من بندقية الصّياد الذي يمرّ كلّ يوم محملقا إلى الأعالي، منتظرا تحرّكنا من أماكنا.
أخشى أكل الحبوب التي سنلتقطها من الحقول المرويّة بسموم ونفايات المختبرات المتطّورة، والتي بدأتُ منذ الآن لا أستسيغ طعمها، حتّى وأن بلّلها والدانا برحيق الأمن والسلامة، قبل اطعامنا إيّاها.
أخشى ارتشاف المياه التي لوّثتها وخامة القاذورات، وباتت رائحتها تفوح وتبسط أجنحتها على هواء الأعالي الذي تحسدنا المخلوقات الأرضيّة عليه، كوننا نمكث محلقين في الأعالي فترات ليست بقليلة، ولا تدري هذه المخلوقات أن نفثات وزفرات الأطماع البشريّة قد وشّحت جدار مستعمرتنا العلويّة هذه، ولم نعد نستمتع بأفضليتها.
أخشى ألّا نجد لأعشاشنا قواعد، لأنّ منشار الجشع يجتثّ كلّ يوم الكثير من جذوع الشّجر، ولأنّ نار الحقد التي تؤجّجها مدافع الشرّ يتطاير شررها ليحرق كلّ شيء!
أخشى ألّا أجد سربا نشاركه خوض غمار الحياة الجماعيّة المساندة، لأن الأسراب بدأ أفرادها يؤزّرون فرديّتهم، وينأون عن التّبعيّة الجماعيّة التعزيزيّة!
أخشى دثار الاستبعاد وزنّار التحكّم الذي يفرضه القويّ على الضعيف!
أخشى أن...
كفى... لقد زرعت في داخلي بذور الخوف والتشاؤم – قاطعه أخوه صارخا. فمن أين لك بهذه الأوهام والخيالات؟...
لا زلنا حديثي العهد بالدنيا وأمورها، وها أنت تتحدث هامسا خائفا وكأنّك في معركة حياتيّة، لا مكان للرّاحة فيها، ولا حتّى للتحدّث بصوت عال ! لمَ كلّ هذه التخوّفات وكيف ترضى بذلك؟
خفّف الفرخ من حدّة توتّره وعقّب:
أنا أرقب منذ أيّام قليلة ما يدور حولي، وتصل إلى مسامعي أحاديث كبار الطّير، جيراننا، وقلقهم على أفراخهم، وكذلك قلق والدينا اللّذين يشاركان في هذه السّجالات . ولكن، حرصا علينا، وخوفا من إيذاء مشاعرنا، فإنهما يعتصران في حلقينا سائغ الطعام مبهّرا بأريج السعادة والأمل.
إذا، لمَ لا تجبل أفكارك بالمحبة والتفاؤل؟ قاطعه أخوه زاعقا: لمَ... لمَ... لمَ...