بين النجاح ... والخيبة*
أريج التألق في المعالي رائحته قوية؛ لمن شم بنفسه وصادق وقارب الناجحين كأنه يشمهم، وهو سر قوي أودعه الله سبحانه في النفس الإنسانية بعامة، لا تخصيص فيه لأحد من البشر كائنا من كان، ولا يزال هذا العبق الإلهي متصلا بين السماء والأرض لا ينقطع، يستنشقه أهل الصدور الطامحة والقلوب المخمومة[1]، ويضيق به أصحاب النفوس الخاملة ذوي المعادن الصدئة. تلك سنة الله جل جلاله.
ولا يزال ذلك الإنسان يستروح هذه النسمات الكونية في حله وترحاله، تارة ينشرح صدره بذلك الأريج العليل، وتارة تنقبض نفسه لخلل في ذاتها، يقلِص أو يضعف ذلك السري الإلهي أو يعطله تعطيلا، ليكتسب بهذا الخلل تركيبة عجيبة مكونة من ثلاث مركبات: العجُز، وضعف الهمة، واضطراب الرأي.
فالعجز يجعل ذلك الإنسان كيانا ممتدا على الأرض يكبر فيها، غير أن جذوره على ضحضاح من التربة، أو هي جذور عميقة غير أنها في أرض سبخة لا تكاد تنبت خضرة ولا ثمرا، وهذا العجز: وجه قبيح للضعف والخور، زينته التسويف والكسل ، ولصاحبه من النعامة طبعها في مواجهة التحديات، مقتاتا بالسوف؛ يعيش على الأماني الخادعة، حائما دون وقوع، يومئ من غير تحقيق.
أما الثانية فما أكرم الله سبحانه الإنسان وكرّمه إلا بعقله وهمته، فإن ضعفت أو فقدت؛ كان إلى غيره من الكائنات أقرب؛ في أكله ونكاحه وجريه ولهثه، ليكون لحما ولباسا ومتاعا وأثاثا لغيره في الحياة، هيوب من كل شيء، محجام، يمد يدا جذماء لمعترك الحياة، يبغي تناوش السداد بيد مقطعة الأصابع.
وأما الاضطراب في الرأي فهي صفة قابعة بينهما، تأخذ من هذه الصفة الثانية وتلك، فما يخرج منها إلا الوهن والحيرة، صاحبها خادع الرأي غير مستقر، في جفلة عن الحكمة والرزانة والسداد والتوفيق، ليلد الآراء المشوهة، ثم لا يزال مترجعا عنها وهي الناقصة في ولادتها، لتستمر حياته بلا إنجاز، رافعا عقيرته بالوعود والأماني سنة بعد سنة، وعقدا تلو عقد.
وهذه المركبات الثلاثة : العجـز، وسفـول الهـمة، واضطـراب الرأي، إن هي إلا عجينة سرعان ما تنتج مركبا عجيبا اسمه: ( الخيبة ) وهي تحمل في لسان العرب معاني: الحِرمان والخُسران والباطل، كأنها ثلاث بثلاث، ثلاثة مدخلات خائبة، تعطي ثلاثة مخرجات عقيمة.
هنا صاحب القلب المخموم الدائم التفتيش فيه، يراجع نفسه فيما ورد عليها ، وما توطن فيها من مدخلات تلك الصفات ومخرجاتها، ولا يزال يقترب من نسائم القمة؛ إن هو حاول أن يصبغ قلبه بهذا الجرد الدائم والتنظيف المستمر.
وبما خلق الله تعالى من قابلية في الإنسان للتميز والنجاح، إلا وجعل في مقابل عجينة الخيبة تلك بمركباتها، عجينة النجاح بمركباتها أيضا، ولم يختص بهذا الأمر دين على دين، أو فكر على فكر، أو شعب على شعب، إنما هي سنة ماضية وقانون كوني لكل بني البشر، والسعيد من أجاد في اختيار تركيبته.
ولكن في مقابل تلك ( الخيبة ) الشؤم، سن الله عز وجل للبشر سبل ( النجاح ).
والنجاح يحمل في لساننا العربي معاني: الظفر، والـِجد والصدق والصواب، كأنها بمجموعها ترسم فسيفساء أخّاذة المنظر، عالية الجودة والقيمة، تأخذ من كل معاني الجمال بلون فتشرق على صاحبها كأنها كوكب دري.
والنجاح له عجينته الخاصة ـ كذلك ـ التي تقابل تلك العجينة ـ الخيبة ـ فيتكون النجاح من: ( القوة، والعزيمة، والثبات ) وهي زينة أهل القلوب الطاهرة النقية، فبقدر ما يراجع الإنسان ويجرد قلبه، بقدر ما تستحكم هذه الصفات فيه، ويتشربها القلب وتصبغ بها الجوارح كلها بما فيها العقل على رأسها.
والنجاح يحمل في معانيه ثلاثة معاني كبرى: الظفر، والإنجاز، والصواب ، وهي كذلك ثلاثة مخرجات لمركبات النجاح ـ القوة والعزيمة والثبات ـ ثلاث مدخلات صحيحة تعطي ثلاث مخرجات ملموسة.
فأما القوة: فهي الشاملة لقوة العقل والفكر، لقوة الروح والقلب، لقوة البصر والبصيرة، لقوة العلم والمعرفة، لقوة التنظيم والتخطيط، لقوة العطاء والبذل، لقوة الإرادة والطلب، لقوة السعي والضرب في الأرض ..يمسي الإنسان بهذه القوة كالشجرة العظيمة الوافرة الظلال، الضاربة الجذر في الأرض، مثمرة بكل خير، مريحة لكل وارد.
وأما العزيمة : فهي استجماع قوى الإرادة على الفعل، وهي اللوعة التي تهون كل روعة، وكم هو بليغ قول من قال: العزيمة هي " لوعة في الفؤاد، غرام في القلب، انزعاج في الباطن، نيران تأجج القلوب" إنها الفولاذ الذي يمكن الإنسان من المضي في أهدافه وتحقيق أحلامه، وتكسر كافة القيود النفسية والمحيطة في سبيل الوصول للغاية النبيلة.
الثبات: هو الأكسير الذي يدفع السأم والملل والضجر في طريق النجاح، وهو الحجر الرصين الذي يقوم عليه بنيان الإنسان، فما ثبت بيت بحجر متدحرج، ثبات في القلب، وثبات في الأداء النافع، وثبات في مواصلة الصبر حتى الظفر، لا زعزعه بالرياح المختلفة المضادة.
ومع اختيار الإنسان لتركيبته بين هذه وهذه، يتكون فيه أحدهما، بقدر ونسبة، فيؤسس بذلك وطنا في قلبه، تنبت فيه تلك المخرجات التي اختار لها عجينتها .. وطنا يبدأ من القلب والذات، يبدأ من الخيبة أو النجاح، ومع تشابه أمثاله من إخوانه بني البشر، يتكون الوطن الكبير الذي يضم كل أولئك، وينصبغ الوطن بأي من الفريقين، إما خيبة أو نجاح.
حين يدرك الإنسان هذه المعاني بكل دقتها، يستطيع أن يضع نفسه في أي المجالين، وأي الطريقين، ويستطيع أن يرى الخيبة والنجاح فيمن حوله، من خلال مخرجات هذه وتلك، ويستطيع أن يحدد وطنه القلبي؛ ليكون منه الوطن الكبير.. واحدة بواحدة... ولا مفر.
فإن أبصر ـ في نفسه وغيره ـ الجبن، والكسل، والتسويف، والخوف، والأماني، والتأجيل، والتردد، وارتباك الرأي، وتقلب المزاج، وهشاشة الجذور، والسطحية في الأداء، والحرص على الملذات والظواهر والدعاية، وتشوها في المخرجات والممارسات، وظلما وكذبا.. أدرك أن ذلك الطريق هو للخيبة أقرب.
وإن رأى ـ في ذاته ومن حوله ـ حكمة، وسدادا، وقوة، وعلما ومعرفة، ومضيا في الإنجاز، وبعدا عن القول وركونا للعمل، وصلة روحية طيبة، وصدقا في اللسان والجنان والنتاج، ورزانة في الطرح، وسموا في الأهداف، وسعيا لكل نافع، وبعدا عن كل ضار وباطل..أيقن أنه على طريق النجاح وفيه.
و تأتي آيات الله المسطورة ـ في القرآن الكريم ـ متوافقة منسجمة مع آياته المنظورة في الكون ـ قوانين الكون ـ فيحدث الاكتمال العالي بتلك النسمات المبثوثة في الكون، والمنادى بها في كل بيت وشارع وحي وقرية ومدينة من أرجاء وطننا الحبيب، وطن حفاظ الكتاب.
يسمعها المرء منا ويطالبه رب الكون بالتذكر، لأنه قد ينسى في زحمة الحياة هذه الشجرة ونتاجها، أو تلك الشجرة المجتثة، يطالبه بالتذكر ويحثه على التمسك والتكامل مع قوانين الكون الربانية فإنها غلاّبة، كي يصحح وضعه وليكون إحدى الشجرتين.
( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) .
وما النجاح إلا كلمة طيبة ضاربة في عمق الوطن الكبير ـ سنة الله سبحانه ـ إن هي لامست تلك القلوب المخمومة! فسعت للأمور سعيها وأعدت للوطن عدته وحرصت عليه لأنه قلبها! .. فلنكن من صنّاع النجاح، ولنروي شجره، ولنكثر غرسه، عسى أن نكون عالين في عليين.
وتحية عالية لكل طالب للنجاح حريص على قلبه في حناياه؛ ومحبا لنجاح وطنه في مسعاه.
=========
* ثارت معاني هذه المقالة من بعد قراءة جديدة لمقالة لمصطفى صادق الرافعي رحمه الله، وكنت قد قرأتها لأول مرة منذ أكثر15 عاما، لذا فصلب المقالة هي من علو الرافعي فله الفضل في تهييج المعاني.
[1]مخموم القلب: يقال: خممت الشيء إذا كنسته، وخممت البيت إذا كنسته، مخموم القلب أي أنه يزيل ما علق بقلبه أول بأول. وفي الحديث الصحيح:ـ )كل مخموم القلب، صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد).