قراءة في قصة " اعتراض " للأديب المغربي الفرحان بوعزة
https://www.rabitat-alwaha.net/molta...ad.php?t=59547
نص القصة
======
" اعتراض "
عنوان خاطف نجده في استقبالنا ، نحاول أن نلتقط منه سراجا ينير لنا تغلغلنا في ردهات القصة ،
أهو بمعنى الاعتراض عن الشيء من " اعترض " أم اعتراض الشيء ، من " عرَض" أم معنى آخر من معاني الكلمة الكثيرة ؟؟
لا شيء في العنوان يوجهنا لهذا أو لذاك .
"... تهت في الشارع الكبير ، والأيام تسقط من يدي كأكياس فارغة .. أخطو ، أتفقد خطواتي ،
الناس كالفئران ، يختبئون تحت الرذيلة ليلا .. ويظهرون أنقى من المطر نهاراً .."
بدأ القاص بنقاط متتالية كأنما يقتطف المشهد من مسرح الحياة الحافل، يرويه لنا البطل بنفسه كي تصلنا
الصورة كما هي على لسانه ، يعبر عن انفعالاته ومشاعره .
تهت / تسقط / فارغة / فئران / رذيلة ، كلها كلمات أدخلتنا في جو سوداوي ، وكأن البطل في محنة ،
يتأمل حاله فلا يجد ما يسر، وينظر في أحوال الناس فلا يرى بصيص نور .
" حاولت أن أتملص منه ، كان يلازمني ، يسكن معي ، يشاركني في سريري .."
من هذا الذي كان يحاول التخلص منه ،ويلتصق به التصاقا ؟؟
خياله ؟؟ ظله ؟؟ صورته ؟؟ رفيقه ؟؟ كل ذلك محتمل ، لكن الأكيد أنه غير مرغوب فيه،
ما أصعب أن نُجبر على قرب من لا نحبّ !!
" تركته نائماً وخرجت خلسة ، لكن اللئيم كــان يقظاً ، يقراً بعينيه سقف البيت على مهل .. "
في محاولة يائسة بائسة للفرار من سيطرة الرفيق ، يكشف لنا الكاتب بعضا من أسرار القصة ،
ونشرع في مقت ذلك القرين ، اللئيم كما وصفه الكاتب ، لا ينام عن مراقبة صاحبه ،
ولا يمل من مضايقته ، يقرأ سقف البيت على مهل مستهترا بقلق البطل .
أهو الشيطان ؟؟ أهو نفسه الأمارة بالسوء ؟؟
" التفت بسرعة ، وجدته يتعقبني .. وفي غفلة منه ، انعرجت إلى درب ضيق ،
لملمت ملابسي في فمي وجريت هارباً ، وهو يصيح من ورائي ..
ـ انتظر .. أنسيت عشرتنا يا هذا ..؟ "
يستميت البطل في الهروب من غريمه ، ويجدّ في التخفي عنه ، و اللئيم مستمر في غيه ،
لا يتعب ولا يرجع ، بل أكثر من ذلك يحاول أن يستفزه بذكر العشرة .
" توقفت أستجمع قوتي .. فجأة ، نط أمامي غاضباً ومعاتباً.. حاولت الهرب "
يبدو أنه مصر على الاتصاق بصاحبه ، غير آبه بإرادته و اختياره و ميوله .
( كنت أظن أن كلمة " نط " عامية ، واستغربت استخدامها في النص دون ما يشير لعاميتها ،
لكنني حين عدت للقاموس وجدتها كلمة فصيحة لكن معانيها بعيدة قليلة عن المعنى المراد في النص .)
"اعــترضني ،هـم بضربي ، والواقع أحسست بالضعف أمامه .. أشهر أمامي وشاح الموت بعدما لـوى فتحة جلبابي على عنقي ،
فقفزت كل ملابسي فوق ركبتي .. وكاد يخنقني ، ثم طوح بي على الأرض اليابسة .. جرني مسافة إلى حانة متآكلة .."
إن القارئ يلاحظ هنا بعد أن تابع مشهد الهروب و محاولة التملص من القرين ،
أن عزيمة الفارّ قد خبت ، وبدأ الضعف يتسلل إلى قلبه ، وربما سيركن لسيطرته عليه ،
هي معركة خاسر فيها إصراره ، منهزمة فيها عزيمته .
و بالفعل ، يسلم البطل نفسه للقرين ، يضربه ويمزق ثوبه ويجره ويقوده، إلى أين ؟؟
إلى حيث ترمي الشياطين ضحاياها ، وتسخر من همتهم وهاماتهم ، إلى حانة متآكلة ،
كعمره السقيم .
الحانة ، وكر الفسق والفجور ، حيث يأمن القرين من صحوة قرينه فيتركه مطمئنا وينام حين ذلك .
وكر كم دمر من أسر ،وكم أهلك من ضمائر وكم أمات من نفوس .
" الناس يمرون ، يتوقفون ، يضحكون ، يتصايحون ، صرخت فيهم أين هو ؟ قالوا : من ..؟ قلت الشيطان .. قالوا : أنت ..؟ "
هذا هو مصير من باع نفسه لشيطانه ولهواه ، أضحوكة ومصدر إزعاج ،ركام قمامة ، ممسوخ الهوية و مهان الكرامة .
يصرخ البطل في الناس يسأل عن قرينه الذي اطمأن فاختفى ، لكن أثره باق باد على هيئة المحزون وحالته ،
فكان أن تلبسه قرينه فأصبح هو نفسه شيطانا في نظر الناس ، حين قالوا :
" : أنت ..؟ "
وهي قفلة مميزة للنص ، توحي بأن الصراع الذي ظننا طوال القصة أنه بين طرفين ،
ما كان إلا صراعا داخليا تنقسم فيه ذات البطل إلى طرفي نقيض ، باعث مقاوم و باعث يغري بالرذيلة .
نسأل الله العافية لكل مبتلى و لكل ضعيف أمام شهواته والمغريات .
=====
قصة قصيرة في حيزها الزمني ، لكنها مستمرة في الحياة تتكرر كل يوم ،
هو ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر ، بين هوى النفس والخير الكامن فيها ،
صراع كتبه الله تعالى على عباده ليميز الخبيث من الطيب ، القوي من الضعيف .
و بعد كل هذا نعود إلى العنوان من جديد " اعتراض " ، لنجد - من وجهة نظر شخصية - أن النص
لم يساعد كثيرا في تمييز المعنى الحقيقي والدال للعنوان، ومع ذلك يمكننا فهمه على أنه اعتراض
البطل على غواية شيطانه ، لكن يميل القارئ إلى أن الكاتب كانت له خيارات أوسع لاختيار عنوان أنسب و أقرب .
الأديب الفرحان بوعزة ،
أرجو أن تتقبل قراءتي لنص رأيت فيه " سارتر" في حلة مغربية خاصة ، مائزة الأدوات ، عارفة بالصنعة ،
وما كان وقوفي في أفياء القصة إلا إملاء إعجابي و تقديري لما كتبت .
دمت وأدبك الرفيع .