المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بشار البدوي العاني
القمر مختال كعادته لم يكتف أن يتربع في صحن السماء زهوا و غرورا بل رسم صورته على صفحة الماء الجاري المتدفق انسياباً و عنفواناً .
كانت ليلة صافية , زادته بهاء و زينت ما حوله لألئ در مشرقة من نجوم و كواكب , فكان كنحر غجرية تحلقت من حوله حبات اللؤلؤ و الزبرجد.
على ضفة النهر العظيم العتيق , وفي أحد الزوايا القاتمة تحت جسر معلق مهترئ , جلس رجل في منتصف العمر يراقب صفحة الماء السارية المدبرة بوجوم و ضيق , ولم يعبأ لا بالقمر ولا بالسماء ولا بالنهر.
تتخلل دقائق صمته وهواجسه نغمات حزينة يطلقها بين الفينة و الأخرى , أو دمعات ينشفها على صفحة خده ,الذي رسم الدهر به أزقة و دهاليز .
يصفق أحياناً بيديه محوقلاً , وأحيانا يكتنز رأسه بيديه كأنه يعصره , مطرقاً رأسه إلى الأسفل.
-(سامحني يا رب) صرخ بصوت عال ممزقاً أمارات الصمت و تيجان الهدوء , و توجه إلى النهر مباشرة خائضاً في مائه ’ وصوت قدميه على صفحة الماء يصدر فرقعة و صخباً , مما لفت انتباه من جلس يختلس صفاء المساء على ضفاف النهر.
استمر يخوض عباب الماء حتى هم أن يغمره موجه البارد , وازدادت حركاته صخباً و عشوائية , مما دفع عيون البعض بالتسمر لمراقبة المنظر , بينما ركض آخرون باتجاه الصوت , وكأنهم أدركوا أن خطرا ما يقترب , فدفعتهم شهامة ومروءة ,و ربما فضول لاستجلاء الحقيقة.
صرخ احد المهرولين:
- كفاك أبا محمد , تعال يا أخي ,الماء باردة و عميقة .
-كنت اعلم أنني سأجدك هنا هيا.
كأنما لجمه هذا الصوت الرجولي الرخيم , فسكنت حركته وسط الماء , و توقف دون أن يلتفت إلى مصدر الصوت .
بقي متسمراً في مكانه , بين تيارات المياه , وخيال القمر المرتسم على صفحتها.
خاض المنادي غمار الماء بهدوء و خطوات واثقة حتى اقترب من الرجل , وربت على كتفه بحنان وحب , مما دفع الرجل إلى الالتفات و الشروع في نوبة هستيرية من البكاء , معانقاً ذاك الرجل شاكياً مهمهماً بكلام غير مفهوم , طمست معالمه حشرجات النشيج وبعثرته هبات النسيم .
همسات قليلة تبادلها الاثنان كانت كافية بإقناع أبي محمد بالخروج من الماء بخطى متثاقلة ومحملة بوجع مبهم ,
كانت معلنة نهاية تجمع الناس و مشاهدتهم هذا العرض التراجيدي الحزين.
عادت عيناي إلى مراقبة جريان الماء و أسراب أعواد (الزل) المنتشرة بجمال على ضفاف النهر , والى قفز الضفادع الجائعة على صفحته , طالبة فريسة دسمة من أسراب الحشرات المحلقة.
ما زلت أفكر (بهذا العجوز) وأخمن ما الذي دفعه للتوغل في حضن هذا النهر.
وبعد ساعات قررت الرجوع إلى منزلي معلناً نهاية رحلتي النهرية , قافلا أجرجر أذيال الهزيمة و الخذلان , بما أن صنارتي لم تفلح في اصطياد أي شيء من هذا النهر , لا سمك , و لا حتى ضفدعا أو فارا.
في طريق العودة وعند دخولي أحد الأزقة المؤدية إلى بيتي مستلاً صنارتي الخائبة , تصادفت برجل مسرع يهم بدخول الزقاق , ولولا ستر الله لفقأت صنارتي عينه معلنة عن أول صيد لها منذ دهور.
- أنا جد أسف لم أنتبه يا سيدي لدخولك.(صوت متلعثم يملؤه الخجل)
- لا عليك يا بني حصل خير.(بهدوء وإيمان)
تسمرت في مكاني , وأنا انظر إلى ذاك الرجل , الذي لم يكن في الحقيقة : سوى الرجل المنقذ الطيب.
أهلا ياعم لقد رأيتك و أنت تخرج أبا محمد من الماء و.....
-أخي الأكبر المفجوع بغرق وحيده في هذا النهر , أعانه الله لقد ذهب عقله حزنا وكمداً.
لم تستطع شفتي أن تنبس بكلمة واحدة , ولا برد سلام المنقذ المودع , وهو يهم بالفرار من سيل أسئلتي الجارفة ,التي ارتسمت بوقاحة و فضول على محياي فآثر الرجل أن يفر من أعبائها و تبعاتها.
أحسست بمرارة و حرقة يختلجان في حنجرتي وكأنما صخرة نبتت في جيدي.
وأدركت الآن لماذا غاب جمال الأمسية عن عيون ذاك المسكين ولماذا غدا ذلك النهر المتفجر حيوية و خيراً مصدر تعاسته و قهره وصار قرص البدر المرتسم على صفحته شبح موت يقهقه بفزع وشماتة.