بَيْن ربوع أبْجَديّتي ينْبت السّنديان و النخيل و أشجار كثيرة، و يثمر الكرز و الزيتون و تتساقط رطباً جنياً ، تُستخلص العطور الزكية من زهر الليمون و خشب الصندل و الياسمين والسوسن،
حروفي شهية و قارؤها يرتشفها بروية،و من كان بالأمس حبيبي مازال يقرأ فيها شغفي و لهفتي ، و من عصارتها ينتشي،و من رغوتها يستشعر النخوة،ما زال يؤمن أن حرفي رسول بيننا ،و نثري لأجله يُكتب و يُرْوى، و أنّ ردّتي عنه ذنب منه سأتوب يوما، إلى رحابه سأعود بدموعي تائبة. و قصائدي قربان أستجدي بها معذرته ، فله أقدّمها علّه يرضى.
مخطئ هو،كل ظنونه عمياء تذيقه أملا بطعم الوهم يزيده إثما،
كان بالأمس ساحري أو لم يدر أن السّحر لا يعمّر أبدا،
أكاذيبه الصماء تقذفها المطرقة إلى السندان فيطرحها أرضا ، عيناه الوثنيتان نورهما تتقاذفه الشهب فتسقطه ميتا ،
قرأ كلماتي و قرأ فيها حنينا إليه، فأتاني يهذي لم يصدق أني ما عدت أكتب إليه، لم يصدق أنها مجرد شوائب ذكريات عالقة على أهداب أبجديتي،
انتهت قصتنا و انتهت تلك الرسائل التي تجمعنا، ما عادت حروفي رسولا يُنبئ بشوقي ،ولا صوتا يحــدث عن شغفي و عشقي، و لأنه رأى فيها إيحاءات له ؛قرّرت أن أقتلها،فحكمت عليها بالوأد ،لكن كلما ردمتها تحت ضلوعي عادت و أنجبت قصيدة، كأنّ وأدها روح تضاف إلى أرواحها المائة بعد الألف. فارتأيت أن أصنع من أصدافها بنيانا مرصوصا ،حملت معولي لأهشّمها ،و كلما ضربتها تناثرت ، تشتت أشلاؤها، جزء في الهند و أجزاء في اليمن ،وما أكاد أقول انتهيت منها حتى تعود و تلتحم كأنما أفرغ عليها من عين القطر.
حية رقطاء، ليس لي حل إلا أن أقدم رأسها لمقصلة الحرف. فطلبتها للموت فأتت و لم تهرب، واثقة كأنما دعوتها إلى حفل فأبت إلا أن تلبي دعوتي.
هيفاء، حسناء، نجلاء جميلة المحيا، بوجه مشرق و جبين ساطع، فم أرجواني قاني، ترتدي ثوبا من إستبرق و الأكمام سندس ، جدائل سوداء طويلة ، تضح تاجا على رأسها بالألماس مرصع ، في جيدها عقــد فاخر من اللؤلؤ و الياقوت،
أساور فضية زينت معصمها ، حذاء من البلور ، خلخال في الرّجل كلما خطت خطوة اهتزت لوقعها الأرض هزا ،
ذيل ثوبها المتدلي تحمله السكون، الضمة ،الفتحة و الكسرة،
أبجديتي قادمة تمشي الخيلاء متناسقة الخطى، ما من عين تلمحها إلا تطأطئ إجلالا، فسهامها تصيب القلب بدهشة. والشمس تزّاورت عن يمينها خجلا من بسمة ثغرها الأخاذ. حتى خيل لي أنها عروس تزف إلى زوجها. تسير في دربها على بساط ممرّد من عسجد و زمرد ،عن يمينها وقفت العنادل تشدو، عن شمالها الأزهار رقصت و غنت،
ذهلت لمنظرهم أيرقصون فزعا أم فرحا، رابني الهدهد يتقدم الحشد إلى المكان المحدد ؛حيث مقصلة الحروف المعدة لكل أبجدية تواطأت مع الحنين و خرجت عن أعراف قبيلة النسيان ،وصعدت العروس إلى مهجعها الأخير، بثبات مدّت رأسها ، و قبل أن تهوي الشفرة الحادة على عنقها نطقت بصوت يسمعه حتى من في القبر : إن مت أنا فلا حياة لك من بعدي ، انا نبض الروح و ترجمان القلب ، ستبقين من بعدي صماء خرساء و يقتلك الوجد، فلا الدمع يفرج عنك ولا يخفف قسطا من الوجع ، فان كان في قتلي راحتك فاقتليني، فاقشعر بدني من هول قولها و تصبب العرق مني، فهممت فزعة أجري فارتطم رأسي بحائط، فسقطت مغشية بعضا من الوقت، و لما أفقت وجدت نفسي على سريري ممددة و في يدي قلمي،أدركت أني كنت رهينة كابوس مخيف..