طابور طويل عريض متعرج كثعبان يمتد على مد البصر .. كتل بشرية متراصة ومتلاصقة بعضها ببعض ’ ينتظرون منذ يوم أمس ويتوقون شوقا من أجل ان تكتحل عيونهم برؤية المطربة التي حلت بالبلاد لأول مرة ’ بعضهم قضى ليلته على قارعة الطريق متفرشا الارض ومتلحفا نجوم السماء من أجل الظفر لمقعد من المقاعد الاولى والتقاط صور للذكرى مع المطربة .
حرارة الصيف الملتهبة تكاد تغرق هذه الكتل البشرية في عرقها ٍ التعب والانتظار الطويل نال منهم ِ قوات الشرطة تنظم الخارجين عن الطابور بالهراوات واحيانا بالصفع والركل ِ لكن لا احد من الجموع استسلم او تخلى عن موقعه ِ انها فرصة العمر بالنسبة لهم ومن ضيع عليه رؤية المغنية وسماع لصوتها الكرواني فكأنه ضيع العمر ’ انها فرصة لا تتكرر في بلاد لازال الموت فيها سيدا على الجميع أنهار الدم التي تسيل بلا توقف سرقت من الناس الفرحة والأمل ْ , الخوف الذي يخيم على الجميع جعل الناس تبحث عن جرعة فرح عن قطرة أمل وهاهي فرصة اليوم ربما لن تتكرر للكثيرين لان الرعب لازال طريقه طويلا هنا ولازال الظلام يحجب شمس الأمن الى اشعار آخر ..
نظر الى هذه الجموع المتراكمة والمشاهد الغريبة وتقدم بخطى متثاقلة نحو مدخل الملعب الذي سيقام فيه حفل اليوم .
نهره احدهم قائلا :
- من تكون انت حتى تخترق الطابور وتقف على عتبة المدخل .
وعلق آخر :
- إنه ينتظر ان يفتح الباب ليدخل مع المحضوضين ..
ونادى أحدهم الشرطي بأعلى صوته
ايها الشرطي هناك من يريد الاحتيال ويخترق الصف والطابور عنوة .
وراحت الايادي تجذبه من القفى .. وترمي به الى الخلف تحت هروات الشرطة ليستقر به الحال بعيدا عن مدخل الملعب . التقط انفاسه ومسح الدماء النازفة من انفه وراسه وتقدم مرة اخرى مخترقا الجموع لكن هذه المرة كان اكثر عنفا وظراوة ’ فلم تنفع حتى هروات الشرطة وصياح الناس وكأنه آلة من فلاذ ’ تراجع البعض خوفا وراح البعض يبدي امتعاضه وتذمره بالكلام ’ الا انه لم يأبه للأمر وراح يشق طريقه نحو باب الملعب دافعا بمنكبيه كل من سولت له نفسه إعتراض تقدمه تقدمه .
اقترب منه احد افراد الشرطة بحذر وخاطبه بلين ولطف اعتقادا منه انه مجنون
أعلم انك مفتون بالمطربة حد الهوس .. كلنا نحبها ونعشقها ولكن رغم هذا دعني اقول لك انك مخطئ في تعديك على حقوق الآخرين ’ انهم ينتظرون هنا منذ يوم أمس ولك ان تتصور مدى التعب والارهاق الذي اصابهم .. اذا سيدي اطلب منك احترام الآخرين فلكل دوره واننا نخشى ان يحذو الاخرين حذوك وتصور مدى الفوضى التي ستحدث فلربما يلغى الحفل بسبب تصرفك وستكون مسؤولا عن الاظرار التي تلحقها بالأخرين وتتابع قضائيا .
اتكأ على باب الملعب ناظر الى الوجوه والاعناق المشرئبة التي تستطلع الأمر وتوجه اليه نظرات الاستغراب .. وكثرت الهمسات من حوله .
قال احدهم
عله مجنون
رد آخر
لا .. اعتقد ذلك ربما مدمن مخدرات لذا عليكم بالحيطة والحذر
وأعقب ثالث :
انه يصطنع الجنون ليدخل مع المحضوضين بلا تعب .
نظر اليهم جميعا واطلق العنان للسانه :
لست مجنونا ولا مدمنا ولم اشرب شيئا مما تظنون او تعتقدون .. بل لست طامحا حتى في الدخول الى الحفل ولا أعرف او أسمع حتى بهذه المطربة التي تبيتون لاجلها الليالي .
إستغرب الناس أمره وراحت الاصوات ترتفع
ماذا يريد اذا ..؟
قال وفي نبرته شيء من الاسى والحزن :
أريدكم انتم ابناء وطني ..
وراحت الاسئلة تنهال عليه بغير انتظام ..
وماذا يفعل بنا هذا ..؟
ماذا يريد منا .. ؟؟ غريب شأنه..
لم يلقي للتعاليق المختلفة بالا وواصل كلامه :
اريدكم انتم اخواني ’ لم اجد سبيلا سواكم واعلم انكم لن تبخلوا عني ..
قال احدهم :
انه متسول ..
اردف زميلا له : ويتسول بالقوة ..
رد عليهم : لست كما تعتقدون .. لست متسولا .. وان اردتم اعتبار ما اطلبه منكم تسولا فلكم ذلك .. لكني اراه الواجب الذي لا مفر لكم منه .
وراح البعض يصرخ في تذمر بالغ
عن اي واجب تتحدث يا سيد ..؟
علق آخر ساخرا : الواجب انتهى مع الثورة .. لقد ادى ابائنا واجبهم في الكفاح ’ وأدينا نحن واجبنا في الخدمة العسكرية ونحن الآن حل من اي واجب .
ورد على الجميع بصوت حزين :
افهموني يا ناس الوقت لم يعد في صالحي ’ الوقت ربما لن يرحمني اذا تأخرت أكثر ’ ابنتي مرمية في هذا المشفى القريب منكم وأشار بأصبعه ناحية المشفى ’ وقد اختلف الموت والحياة في شأنها انها محتاجة لبعض من دمكم والا انتهى امرها ’ ليس هنا سواكم والمدينة بعيدة ولا بد ان تنقذوا ابنتي .. لم يبقى الا بعض الساعات حسب تصريح الطبيب ان لم احضر لها دما فستضيع ابنتي .. ارجوكم انها ابنتي وابنتكم ايضا .. إنها وحيدتي لقد ماتت امها منذ زمن ولا اريدها ان تموت ايضا .. ارجوكم افعلوا شيئا من اجل ابنتي . قال ذلك بتوسل يقطع الاكباد .
عم صمت رهيب بين الجموع .. نظر اليهم نظرة استعطاف وكرر رجاءه ’ جاءت نبرات صوته هذه المرة حزينة رقيقة لو وقعت على جبل من صخر لتهدم .
رد أحدهم بصوت الآسف :
لكن يا هذا لو تعلم كم خسرنا وكم انتظرنا كي نحضر هذا الحفل .. انها فرصة العمر ونحن لا نريد ان نترك فرصة مثل هذه تضيع .
ومن وسط الطابور الطويل خرج صوت آخر :
عد الى المشفى فأكياس الدم مخزنة انها متوفرة بكثرة لكنهم يخفونها عنك .. لو اظهرت لهم بعض الغلظة مثل التي اظهرتها اليوم وانت تخترق الطابور تأكد انهم سيوفرون لك اكياس الدم لابنتك صدقني اني اعرفهم جيدا لا يفهمون الا بالتي هي اخشن .
وارتفع صوت انثوي رقيق :
لا اعرف لما كلما اردنا ان نقضي لحظات من السعادة يأتي من يعكر علينا صفّو هناءنا وسعادتنا ’ وكأننا مكتب للحماية الاجتماعية .
وتابعت صاحبتها :
انا منذ زمن لم ارقص .. فالحفلات لم تقام منذ سنوات ويكفي ما عشناه من رعب اريد لحظة فرح اتحرر فيها من خوفي ورعبي الذي يطاردني في كل مكان ’ ولن اضيع فرصة اليوم , وعلى كل الموت بيد الله وحده ان كتب لها عمرا جديدا فسوف تعيش وان كان مكتوب عليها الموت فمصيرها كذلك حتى ولو اغدقوا عليها سيولا من الدم .
نظر الى الجميع وقد اغرورقت عيونه بالدموع .. وكرر استعطافه وكان صوته هذه المرة يمزق القلوب :
ارجوكم انها ابنتي .. ضعوا انفسكم مكاني ..
رد عليه صوت أجش :
ولما لا تضع انت نفسك مكاننا ’ ثم نحن لسنا مسؤولين عن المجتمع ولو اعتنيت بابنتك جيدا لما حدث لها ما حدث .
في هذه اللحظات فتح المنظمون باب الملعب الكبير فتدفقت الجموع مثل الطوفان الهائج . باحثة عن مكان قريب تأخذ منه صورا مع المطربة الرقيقة .
في الوقت الذي كانت المغنية تشدو بصوتها الكرواني وتتمايل رقصا ويتمايل معها الناس فرحا مغتبطين بنشوة الالحان وآهات الطرب وكأنهم سكارى وما هم بسكارى لك.. كانت فرقة من الدفاع المدني تعاين جثة المسكين التي داستها الأقدام .