خريف
سارتْ معه على ذاتِ الرصيف، تداعبُهما نسائمُ الربيع، وقد ضمَّا الصمت الرهيب، فسقطتِ الكلماتُ من خاطرِها كزخَّات المطر، لتبعثرَ أوراق خريفٍ مرَّ من هناك، تسألُها حروف اللهفة: إلى متى هذا الجفاء؟! وكم سيطول هذا السكون؟ فأمسكتْها بقبضتِها وألقتْها بعيدًا، ثم بعثتْ له برسالةٍ مع القمر، معطَّرة برياحين فؤادِها، تعاتبُ فيها ليله: تُرَى متى توارى نجمُك الساطع؟! متى احتوى العتمة وحلّق بعيداً عن القمر؟ فانتفض الليل وعزف ترانيم شوقٍ لأيامٍ مضت، بين أزاهير روضةِ حبٍّ تشدوا لشغف ليالي بدرٍ تلاشى ضياؤه.
خفق قلبها، فوقفتْ لبرهةٍ، وأخذتْ أنفاسًا من نسائم عمرِها، ثم تطلَّعتْ إلى السماء الصافية كصفاء روحها، فتقاطر الندى على وجنتيها الذابلتين، تشطفان أخاديدَ هرمتْ من عصور الودِّ، وأمسكتْ دمعة تتأجَّج بين أهدابها، احتقنتْ من زوبعةٍ أزاحتِ العطرَ عن الورد، ثم اتَّكأتْ على كتفه، ولامست أناملُها يدَه وقد خانها إحساسٌ يعشعش بين ضلوعها؛ منذ أن حلَّ الخريف بديارهما!
لمحت قمرها في الأفقِ وحيدًا تآكله الشَّجَن، يترنَّم أهزوجةً حزينة، ويردِّد: في حَضرتِك يا خريف.. زارني طيف الحزن، فاحتوَتهُ الرُّوح وانتشَتْ من كأسه المرَّة، أترى تاهَ عن دربه؟ أم لم يلقَ حبيبًا غيري؟!
سمع الليل الحالك أنينَ القمر الهرِم، فهُرِع إليه وقد تلألأ نجمُه، فتبسَّمت ممسكةً بيدِه وهمستْ له: أودُّ - يا عزيزي - أن أبوحَ لك بهوى القلب، هناك في روضة الشوق؛ حيث شجرةُ الزيزفون، غرستُ لك تحت تربتها تمائمَ الحبِّ؛ لتتلفظ سكرًا لمدى العمر، فلا نرى خريفًا وإن حلَّ على عمرِنا ضيفًا!
ضَحِك حتى ظهرتْ نواجذُه السوداء، وأبعد يدَه عن أناملها الباردة، ثم أكمل المسير وهو يتطلَّع للشمس الساطعة، وصَمتُ الخريف يُلاحِق ورقات حبٍّ ربيعي، بعثرتْها نسمةُ هواءٍ حارَّة، تنهَّد بها صدرها المغموم، ثم دفنتْ ما تبقَّى لها من أيامٍ في روضة الشوق؛ مع صوتٍ يصدره عكّازه.