الكائن الحبري
جابت الغرفة ذهابا وإيابا .. تفكر .. تشرد .. تتخيل .. وفي لحظة لمعت الفكرة بعقلها فعادت مسرعة لمكتبها الغير مرتب .. أوراق مشتتة .. كتب مبعثرة .. فناجين قهوة فارغة ومليئة .. أزاحت ما يملأ الكرسي من مسودات رمتها بسلة المهملات بعضها فعلا سقط بالسلة والأغلب وقع على الأرض ..
جلست على كرسيها قبل أن تهرب الأفكار .. بدأت تكتب بثقة .. رسمت كائنها الحبري المعتاد .. هي حفظت ملامحه وشكله وصوته .. حتى وكأنها تعرفه .. لدى لم يعد صعبا عليها نسجه بكل حكاية لها .. فهاهي من جديد تجلبه لتمثل به الأحداث ..وترسم به جدران الحبكة .. آمرته بالحوار .. لم يهتم .. آمرته بالحديث .. لم يتحدث .. آمرته بالمضي .. لم يتحرك .. آمرته بالصمت .. فتكلم :
- ما بالكِ ألا ترين غيري ؟ .. كنت هانئ البال لا أحد يتحكم بي .. لا أحد يأمرني .. وفجأة ظهرتِ أنتِ لتشنقيني.
- وأصبح لك صوت لتتذمر ؟ .. وأصبح لك شأن لتنكص الأوامر ؟ .. ألست أنا من صنعتك من العدم .. ألست أنا من نسجتك من اللاشيء؟
- لا تغتري .. أنت لم تصنعيني ولم تنسجيني .. أنتِ فقط استدعيتني ولبيت .. ولو كنت أفكر حقا ما لبيتك .. وما أطعتك.
- وأين كنتَ لأستدعيك وتلبي ؟
- كنت مع أصدقائي وأحبائي .. وما شأنك بي؟ .. كنت مع روكسان .. كنت مع سيرانو ولورانس والعجوز مارينو نشرب قدحا من الشاي بالشرفة .
- حقا رأيت روكسان وتحدثت معها ؟ يا لك من محظوظ .. لكن.. لكن لا يجب أن تحدثها إلا بأمري .. أنا من صنعتك ويجب أن تطيعني .
- أنتِ لم تصنعيني سيدتي .. بل أنا من صنعتك أنا من جعلت حب الكتابة يتغلغل بمسامك حين اخترقت أوراقك البيضاء لألونها وحين امتزجت مع حبرك الجاف لأجعله الناعم.
- يبدو أنك أصبتَ بعظمة الغرور ولم يعد ينفع معك شيء .. حتى أصبحت تنسى أو تتناسى أبسط الأمور.
- لست أنسى شيء إنما سئمت .. سئمت أن تعتبريني كائنك الحبري .. سئمت أن ترين صورتي وصوتي فقط دون أن تهتمي بما أحس .. أنا أيضا لي قلب وعقل وروح .. فلما لا تدركين ذلك .. سئمت أن توظفيني بحكاياتك وبعدها تغلقين دفة الكتاب وتتركيني فيه أسير معلق .. لا أنا إلى سماء الخيال .. ولا إلى أرض الواقع .. تعبت حقا أن تستدعيني حين طقوس الكتابة وأن تنسيني أغلب فترات يومك .. لم أعد أستطيع أن أكون كائنك الحبري بعد الآن .. دعيني أنسحب من حياتك .. أقصد من كتاباتك حتى أترك المجال لغيري من الشخصيات بذهنك .. أنا هكذا .. طبعي هكذا .. إما كل شيء فيك .. أو لا شيء..........
قاطعته بلهفة :
- ماذا تقول ؟؟ .. وعما تتحدث ؟ .. أنت لستَ كائني الحبري فقط ,أنت صرتَ تسكن أعماقي .. نعم أوظفك بكتاباتي .. لكن صدقا حين أجعلك تبكي .. أنا أبكي معك .. وحين تضحك أضحك معك .. وحين تفرح أطير فرحا معك .. وحين تحزن يعتصرني الحزن لأجلك .. كل حدث وكل عقدة .. وكل نهاية أكون معك وبانتظارك .. فكيف تقول هذا الآن؟؟؟ لا تتخيل أبدا أني أضع القلم وأغلق الكتاب لأغلق الكوة التي توصل بيننا معا .. هذه الكوة دوما مفتوحة .. بطول يومي وساعاته أنت تكون معي ..
تغيرت نبرة حديثها لأعلى وأقسى .. :
- أنتَ لن تتركني الآن .. ولن تنسحب من حياتي .. أنا من صنعتك ووحدي أمتلك خيوط التحكم بك .. أوجهك حيت أشاء .. وآمرك بما أريد.
من جديد غيرت نبرة حديثها لألطف وأرق :
- ألا ترى أنك تملأ كتابي وحياتي .. لا أستعمل شخصية غيرك .. كلهم مجرد ثانويين وأنت الشخصية الأساسية .. أنت البطل .. أنت الأهم .. أجبني هيا لما لا تتكلم ؟؟؟؟؟؟
- .............
- تبا لك .. عاودتك نوبة الصمت؟
طرق باب الغرفة بهدوء .. قامت من وسط الفوضى .. فتحت الباب فإذا بها صديقتها المقربة بادرتها دون تحية :
- مع من كنتِ تتحدثين ؟ ظننت عندك أحد..
- لا أبدا كنت أحدث كائني الحبري فقط , لكن ما إن سمع طرقك صمت ..
عادت للكتاب المفتوح توجه الحديث إليه ..
- هيا تكلم أيها الجبان لما لا تتحدث معي الآن ؟؟ ..
نظرت إليها صديقتها .. ثم إلى الكتاب .. ثم إليها .. ثم إلى الكتاب .. ثم ركزت النظر عليها مباشرة مع عينين مملوءتان شك وتعجب .. :
- تحدثين الكتاب؟؟؟؟
- لا لا .. ليس الكتاب .. وهل أنا مجنونة لأحدث الكتاب .. قلت لك أحدث كائني الحبري الذي دخل جحره من جديد ولا يريد الحديث ..
هزت الصديقة كتفيها غير مبالية .. ثم ارتمت على السرير بكل ارتياح :
- أكيد بدأتِ بكتابة رواية من جديد .. لأن هذه الفوضى بغرفتك وهذه التخيلات والهلوسات لا تراودك إلا حين تخططين لكتابة شيء مهم جدا عندك ..
ثم أضافت ضاحكة :
- كما مند عامين حين قلتِ لي أن الشجرة بشباكك أرخت أوراقها الخضراء وبدأت تحدثك .. ألا تذكرين ؟ حينها أضحكتني كثيرا ..
أجابت ساهمة :
- أكيد أذكر
أغلقت دفة الكتاب شاردة بصرها .. وبأعماقها تدور أفكار .. " هذا لا يمكن أن يكون هلوسة .. ولا خيال .. هو حقيقة حدثني .. نعم صوته لازال يرن بأذني ........... "
؛