من بعيدٍ رآها.. لم يُصدِّق عينيه.. إنها هي، تخلصت من المرض وتماثلت لشفاءٍ -ربما يكون سريعًا- بعد عام ونصف العام من المرض المَقيت.. اقتربَ منها.. حدَّق بعينيها بعد وقتٍ طويل من الغياب، لم يرَ تلك العينين الهزيلتين أبدًا بهذا الانكسار من قبلُ.. رمقته وجلست فى هدوءٍ اعتادته مرغمةً من طول مدَّة الرقاد بسريرٍ عاجيٍّ بمصحة الصدر، واقتطفت من بساتين الذكريات بعضَ الزهور التي كانت بزمانه يانعةً، كانت هناك زهرة اقتطفتها من زكريات محمومة وقتَ فِراقه لها.. وجلس ثلاثتهم هي وهو وبينهما نفسُها التي لا تعرف منه معنًى للخزلان.. قالت لنفسها: ربما لا يدري عمقَ الجراح التي خلَّفَها بجدار عمري.. ربما يدرك هذا فقط مَن رأى النزفَ وحاول تضميد الجراح.. كأن وجودي رمال تقتات الجروح.. ما رأيتك إلا مُشتَّتا بعالم مصدره الجنون.. لا تكن بقلبي عابثًا، كفى عبثًا أيها الخالد بفعلك، فربما أكفكفُ أدمعك الخرقاء بساحةٍ من الألم والجراح، دموعك بمجراها على وجنتيَّ لم تجف بعدُ.. أعلم مدَى النفس الأبيَّة فيك، مثل يقيني باستحالة عودة اللقاء.. وحدَها الأحلام مجازية الصنع تخلق لنا عوالمَ وردية بألوانها بوادٍ مُزهرٍ.. لا أعلم هل كانت الأحلام بيقظتنا أمْ أن الآمال أصبحت سلعةً كاسدةً بزمانٍ كل شيء فيه ينجلي لا يتردد بالذهاب ولا يتردد بتشتيت أعمارنا أو ما بقي منها.. علمت منذ البدء ولم أرتجل بخطواتي العمياء، ظللت بعالمٍ من صنع خيالاتي البكماء بوادٍ غير ذي زرع.. جفت الأنهار إذًا ولم تُنبت الأرض غيرَ الأشواك وما زلت أهذي.. بحلقي غُصَّة تشبه غُصَّة اقتلاع الروح، لا أسألك الرحيل ولن أسألك البقاء، هي فقط خياراتٌ مؤجَّلة.. الآن أغلق جفنيَّ لعلي أرى بوضوح، فما كان الضياء إلا أكثر خديعةً للعيون المغلقة كفراشات تجذبها ألوان نيرانٍ مهلكةٍ ترنو إليها بكل شغف لتلهو ببراءةِ صغيرٍ، وما تدري أنها على حافة هاوية الاحتراق، وبالبداية النهاية دائمًا.. تلك عناقيدُ دمعٍ تدلَّت من أعين صنعها الزجاج، لا ترى بينما لها بريقٌ خاطف..كغربتي عنك وعن نفسي، ربما أسكنتُك ضلوعي وأسكنتني حيث لا قلبَ ينبض.. هناك على مقرُبة منا أناسٌ يجمعهم التشابه دائمًا، تلك نقطة الضوء من مسقطها غير عابئةٍ بالعبث بتفاصيل ملامح متشابهة لا يمكِّنها الضوء المحتضر من الاتضاح لترى.. لأرى.. لنرى معًا وجوهًا تتبدَّد.. تتساقط.. تحتضر.. تموت.. فما بين البين والبين كنت بينًا، لا أدري ربما لا يشعر الآخر.. هكذا تسير وأنا أسير كلٌّ بعالمه مؤكد لن تجمعنا السُّبُل المتقابلة.. ثم نهضَتْ واستكملت المَسير