حياةُ الْهَشِيم َ
قصة قصيرة بقلمي
وقف عاجزا بينما يضمد الطبيب جرحَها ، مستلقيةً فوق سرير الطوارئ والدماء تحوطه من كل جانب ، ورائحة الألم تحاصره وتضيق عليه كل متنفس ، ظل يرقبها وهي تتألم وتتأوه وتناديه : يا أبت يا أبت ، كان سيفقد اتزانه لعدة مرات كلما نظر إليها وكلما وقعت عينه في عينيها الصغيرتين البريئتين ، تناديه : يا أبت لا تتركني .. أرجوك لا تدعني أنا خائفة .. كان الجرح غائرًا في كاحلها الناصع البياض كأنه صبحٌ جريح .
بدأ صوته يرتفع : أنا السبب أنا السبب ... ثم انطلق بفكره يناجي نفسه : ليتني استجبت لنداء الإيجابية ولم أنصعْ لوسوسة السلبية والأنانية .. كنت أستطيع أن أحمل قطعة الخشب الحادة تلك ، والتي كانت أمامي مباشرة بينما كنت أقُمُّ الشارع ، وأنظف أمام البيت ، لكنني نظرت إليها ، وقلت : طالما إنها ليست أمام بيتي فليس عليَّ أن أحملها ، ولم َأُبْعدُها عن الطريق ؟ ، ولماذا وعلى جاري نفسه أن يحملها إذا خرج .. إنها أمام بيته هو ؟ ، بل لقد أسرَّت لي نفسي الأمارةُ بالسُّوء : ليته يتعثر هو بها وتصيبه بأذى كي لا يلقى قاذوراته ، ومخلفاته أمام بيته ، فيشوِّه منظر الشارع ، ويؤذي المارِّين ... لم أكن أعلم أنَّ من سيتعثر بقطعة الخشب الحادة هو ابنتي الصغيرة التي لم تكمل ربيعها الرابع بعدُ ، كانت راغبةً في تناول المثلجات على ( الكورنيش ) ، وارتدت رداءها الأبيض الجميل وحذاءها الأحمر ، وانطلقت تقفز الفرحة في عينيها أمامي ، وترقص الأماني بين يديها ، وتظلها شمسٌ ربيعيةٌ لطيفةٌ ساعةَ غروبٍ هادئ .. كنتُ خلفها مباشرة لكنَّ القدر لم يمهلني أن أنبهها من الأذى المتربِّصِ بقدمها الرقيقة الصغيرة ، وفجأةً ، وعلى غير توقع صرعتها تلك القطعة الخشبية الحادة اللعينة على الأرض ، واخترقت كاحلها اللين الرقيق ، وعلا صراخ ابنتي الصغيرة .. لم أتمالك أعصابي .. وضعت كفي على عينيّ .. لم تطاوعاني أن أنظر لحالها الذي أدمى الثرى ببكائها ، وردائِها الذي تلطخ دما ، وجبينها الذي علاه الطين والقذر ، لم أجد من يساعدني سوى جاري العزيز والذي أرسله القدر لي في تلك اللحظة .. عرفت أنه كان مسافرا ليطمئن على والده المريض في إحدى قرى محافظتنا ، وهذا ما منعه لعدة أيام من الظهور ، وتنظيف المكان أمام داره ، وأنا لم أكلف خاطري ـ حتى ـ لأسأل عنه ، وأطمئن عليه ولو بمجرد لفت انتباهه لتلك القطعة الخشبية الحادة .. لقد حمل جاري العزيز ابنتي الصغيرة بين يديه القويتين وكأنها ابنته ، وذرف من أجلها دمعًا غزيرًا بينما يتم تقطيب الجرح لها بالمشفى .. لقد أحسستُ للحظةٍ أنها ابنته هو وليست ابنتي ، واختلجني شعورٌ قويٌ أن المصاب مصابه هو وليس مصابي أنا ...
ولم يدعْهُ الجار وحده للحظة داخل المشفى ، وحتى انتهوا ، بل ظل الجار يحادث الطبيب ويستفسر منه عن حالة البنت ، وما إذا كان سيترك الجرح أثرا أم لا ، حمل الجار البنت ووضعها على كرسي متحرك وأخذ يدفعها حتى باب المشفى ، بينما هو ما زال ينظر لجاره خُفيةً ويحاول حصر خواطره السلبية عن جاره وقَمِّها بأفكار إيجابية ، ليحيي علاقة أضحت هشيما ، وأوشك التجاهل أن يذهب بها أدراج الرياح .
========================
تحيتي
محمد محمود محمد شعبان
حمادة الشاعر
أديب ، وشاعر
مصر ـ الزقازيق ـ محافظة الشرقية