ذكرياتأخذته في حضني ، وسألته في لهفة :
- أين كنت يا صديقي ؟! لم أرك منذ سنة !!
فنظر إلي نظرة ذابلة ، وقال بصوت متهدج :
- هناك حيث الهدوء والسكينة ، والحياة الدافئة ...
وصمت طويلا ولم يكمل ...
كنا سويا ...صديقين ، تجمعنا الأيام والساعات والدقائق ..تجمعنا النكات والضحكات ..تجمعنا الأحزان والأفراح ..نتفق ونختلف ، ولا نفترق إلا للحظات النوم .
من يعرفه جيدا يعرف بأنه شخص ثائر رغم هدوئه ، لا يعجبه الحال المايل ، ويغضب لكل شئ غلط ، ودائما ما تعلو صرخاته :
- البلد دي لازم حالها ينعدل ...لا بد من ثورة علي الفساد والظلم ...
كنت أحاول أن أهدئ من ثورته وغضبته ، فأهمس فيه مازحا :
- أهدا يا عم الثاير ، وخلينا ف حالنا ..
فيزداد حنقه وغضبه :
- إحنا مش جبنا ...والعمر واحد ، والروح مبياخدهاش إلا اللي خالقها .
ويكمل :
- أنت عاجبك اللي إحنا فيه ..عاجبك الفقر والجوع ...التخلف والخنوع.
أنظر إليه مليا ، وأقول له :
- في حاجات كتير كويسة ..مستشفيات ..كهربا ...مايه ...أنت عايز إيه اكتر من كده ...وكفايه بناكل ونشرب ..
فيقفز صارخا :
- أنت مصدق اللي أنت بتقوله ..هو في حاجة واحدة كويسة ...وأكل وشرب إيه اللي أنت بتتكلم عليه ..
لا أنطق ، وأتأمل حديثه ، وأؤمن بكل كلمة قالها ..فكل شئ حولنا مظلم ، ولا توجد بادرة من نور ...وكان الظلام يزداد حولنا كثيرا كثيرا ، حتى تحول إلي سخام أسود كثيف أطبق علي صدرينا ...علي صدور الجميع ...
*****
وجدته ذات يوم متألقا علي غير عادته ...حيوية ونشاطا ...وجها منيرا ، وابتسامة عريضة تعلوه ، وقال بتفاؤل شديد :
- أنا شامم ريحة الحرية ...أنا حاسس أني بتولد من جديد !!!
نظرت إليه في اندهاش :
- حرية اية ، وولادة اية !!!
لم يهتم لكلامي ، وأكمل قائلا :
- أنا مسافر مصر النهاردة ..أنا رايح أشارك أخواني وأخواتي في قهر الظلم .
لم أكن أتخيل يوما أن تتحول أحاديثه الثورية ، ومشاركته الغاضبة علي "الفيس بوك " ، وانتقاداته الدائمة للفساد إلي مشاركة ..مشاركة في قلب الميدان.
حاولت إثنائه ، لكنه أبي ورفض ..بل أقنعني بالمشاركة ..
*****
وجدنا نفسانا في قلب الميدان بين مئات الآلاف ..تدفعنا الأقدام إلي الأمام ، وتدفعنا طلقات الرصاص والدخان إلي الخلف ..نتقدم خطوة ، ونتراجع خطوات ..حركة بطيئة ، وأصوات تعلو ، وآهات ترتفع ..أنين وألم وأجساد تتساقط ..دماء تذرف ..وحناجر تهتف : "يحيا الشهداء " ..وتعلو الأصوات ، ونزداد قوة وحماسة ؛ فتعيد لنا النشاط بعد الفتور ..تلهمنا الأمل المستحيل ، وتفتتح أمام أعيننا طاقات النور ...لا نأبه لطلقات الرصاص ورائحة الغاز التي تمزق صدورنا ..كان كل شئ كلحظة سكون يحيط بها الصفاء والنقاء ، تراقبها شمس ساطعة ترسل أشعتها الذهبية تبدد بها الظلام ...
ننظر حولنا فيبدو الكل في واحد ..كتلة واحدة ..يحملون شعارا واحدا: "أيد واحدة "، وترتفع أصوات المآذن فتختلط بأجراس الكنائس ..ويقترب الحلم رويدا رويدا ، وتفوح عطور الأمل ، ويصير المستحيل حقيقة .
ونظرت إلي صديقي ، وقد بدا وجهه أبيض منيرا ، وقال فرحا:
- ألم أقل لك أن الحرية قادمة !!
دنوت منه وقد بات كل شئ واضح أمامنا ..حرية نحلم بها ، ونصر كبير وظلم يتبدد ، وأحلام جديدة تولد .
أحدقت صديقي بنظرة حب وشكر ، وقلت مهللا :
- أنا حاسس إني أتولدت من جديد !!
فالتفت إلي وقد ازداد وجهه لمعانا ، وندت عنه آهة وأمال جسده نحوي ، وخيطا أحمر يسيل من صدره ، وقال بصوت هامس أجوف :
- ثمن الحرية غالي يا صديقي ..
فأخذته في حضني لأحضن فرحته ، فلم أجد منه غير سراب ...أو بقايا من ذكريات ..
(كتبت في الذكري الأولي لثورة 25 يناير 2011)