قبور لها قضبان
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
مذُ أنْ وعيت الحياة ، لم أر غير أمى ، هي الأبُ والأمُّ ، الحبلُ والوتدُ .
كنت أرشق سهامَ سؤالي عن أبي !! فكان ردُّها الذي ملـّهُ لسانُها ،، إنه مسافرٌ .
كأنه مسافرٌ بلا عودةٍ !! وقد اغتالوا كلَّ الطرقِ بيننا ، عشقته فى صورة قديمة ،أتحسس ملامحه لعلها تستيقظُ وتقبـّلني !!
رسائلُه كنت أشمُّ بين سطورها عبقَ أمّي ، المعاني أرى فيها رجفةَ قلبِها !!
تخيلتُ أنّ هذا من فرط حنينِه لها ، تئنُّ السطورُ بالوعد بالعودة ، بِتُّ عمري كلَّه انتظر عودةَ اللاعودة !!
أرى زميلاتي يأتي آباؤهنّ المدرسةَ للسؤال عنهن ، تمنيت أن تحتضنَ يدي تلك اليـَدَ الخشنةَ التي تشعُّ أمناً، كلُّ مكانٍ به أطفالٌ ، أراه مزيناً بابتسامة رجلٍ !! يحرسُ أولادَه ، يُرعبُ كلَّ مَنْ يقتربُ منهم بصوته الأجشّ، يسيرون وفوقهم غمامةُ أبٍ تظلـّلُهم .
وصلتُ محطة السابعةَ عشرَة ، فأوقفت قطاري في وجه أمّي !!
:- أماه ، أليس لي أبٌ كباقي زميلاتي ؟؟
بالله عليك أين أبي ؟؟ أدركي قلبي ، اجمعي شتات أبنتك فى وعاءِ إجابةٍ مقنعة ، للأسف كلُّ أسئلتي تلقيها في سلة مهملاتِ مشاعرِها.
تأتى لتوقظني قبل موعدي !! كأنها تجبر النهارَ على البزوغ عنوةً ، ومن فوق جبال اندهاشي !!
:- خيراً أمّي .. ماذا هناك ؟؟
:- انهضي ، سنذهب لمكان .
:- أيُّ مكانٍ ؟؟
:- تعالي إلى المطبخَ ، ساعديني وسنذهبُ .
أنهضُ والنومُ لازال لم يستيقظ بعد ، فأسير شبهَ غائبة .
نستقلُّ سيارةً ، أشواكُ الصبارِ تنمو يتيمةً على جانبيِّ الطريق، العيون تسابق السيارةَ ، نَظراتُهم أصابها خريفُ المشاعر ، شعرت أنّ قلوبَهم كورقة شجرٍ جافّة ، تتفتَت بين يديْ زمنِهم القاسي !!
يشق رابطةَ الحزن التى انضمَّ لها كلُّ الأعضاء داخلَ السيارة.
رجلٌ يحدّث ابنتـَه.....
العصبيةُ تتراقصُ أمامَ عينيه كعاهرةٍ سُلـّطتْ عليه !!
:- سامحه الله ، ماذا أفعل معه ؟؟ أكثر مما فعلت .
يصمتُ بصوتٍ ينوح .........
:- كان فرحة عمرى ، جاء بعد أربعة بنات، كنت اسكب عليه العطر وهو يستحم !! والله اسكب عليه العطر بدل الماء !!
:- كفى يا أبى.
:- كف أنت ، اتركيني ، أكاد أنفجر منه ، كان السبب فى موت أمه !! أصابها بجلطة !! ماتت بعد حادثته بثلاثة أيام !!
يبصق بشدة .......
:- ياله من يوم أسود يوم أنجبته !! أساء لنا جميعاً .. حتى أخواته لم يتقدم لهن أحد للزواج ، سامحه الله .
تخرج القطرات من لعاب الازدراء والبغض ، حتى تخيلتُ أنّه يخفى بين طيات ملابسه سلاحاً ، سيدكُّه فى صدر ابنه ، قاتلِ لحظاتِ سعادتِه ومغتصبِ آمالِ ومستقبلِ أخواته !!
تقوقعنا جميعُنا حزناً ، نقدم له نظراتِ عزاءٍ في سرادق أبوَتِه الدامية !! نشفقُ عليه وعلى سنواتِه المطعونةِ بخنجر فلذةِ كبدِه .
السيارة تنحني وتدور ، كأنها تريدُ العودةَ خوفا من شيءٍ يعتريها !! وهي تشقُّ الأرضَ فتثير غباراً يلفح وجوهَنا برمال الخوف !!
مكانٌ غريبٌ، حلمٌ بشعٌ ، بل كابوسٌ رَحَلـَنا له بإرادتنا .
أسوارٌ عاليةٌ مريبة ، فى أطرافها مآذنُ ، لا يُرفعُ فيها أذانٌ ولا تعرف ميقاتاً للصلاة .. بها رجالٌ أشداءُ غلاظٌ ، تؤنسهم بنادقُ ، الطيورُ تحلـّق بجوارهم غيرَ عابئةٍ ، كأنها على يقين أنّ تلك الفوهاتِ لم تُخلقْ لصدورهم.
يفتح لنا بابٌ ضخمٌ ، اُستخدمَ نصفُ مخزونِ العالمِ من الحديد فى صناعته !! رجالٌ تقف نعوشُ الابتسام ، مرصوفةً على شفاههم تنتظر دفنَها في قبور أفواهِهِم .
نمرُّ يسألون عن هواتفنا ليأخذوها ، أحْضَرَتْ أمّي معها مؤونةً ، تكفي نصفَ سكانِ حيـِّنا .
تذكرت !! كلَّ شهرٍ أمي تجَهز مثلـَها ، تخبرني أنها لفقراءَ أقاربِنا من بعيد !
نحملُها ونسير بها وسطَ حشودٍ ، حاملةٍ للمؤن مثلِنا ، كأنّنا جئنا لنتبرعَ بها لضحايا ، ناس غضبت عليهم الأرضُ فكشّرتْ عن أنيابها !!
نجلس بمكان واسعٍ ، مقاعدُه تشعُّ برودةً ، هناك من يفترشُ الأرضَ القاسية ، كأنْه اُسْتُخدم في بنائه ، أحجارٌ ومقاعدُ ونوافذُ قاسيةٌ بَشعة ، تحجبُ هواءَ الحريةِ !! أسلاكٌ هنا وهناك ، عقيدةُ المكان لا تكتملُ إلا بها ، فهي قضبانٌ تلدُ أسلاكاً ، أو أسلاكٌ ترضع قضباناً !!
الناس أتوا من كلِّ فجٍّ عميق ، لا ليحجّوا بل ليؤسروا طواعيةً، ملابسُهم تفضحُهم ، والملامحُ تكملُ مفرداتِهم ، فمنهم مَنْ جاء من قلب مصر، ومن جاء من قيظ جنوبها، ومن شرق قلبِها وغرب واحاتِها !!
يسوقونا كالأنعام !! كلُّ الرجال هناك يمتلكون أداةَ سلاحٍ بدائيةً عِصيـّاً يهشون بها علينا ، كأنّنا نرعى بمراعي الذلِّ والإهانة !!
نسير كوحوشٌ كاسرةٌ ، وسطَ شرايين سلكيةٍ باردة ، ترتجف منها أفئدتنا.
نَصِلُ لأحد الأبواب ، فيُفتحُ بمفتاحٍ عابس !! نمرُّ على امرأة تستحلُّ جَسدَ النساء ، تعبثُ بخصوصياتِهن ، تبحث عن شىء لا تعرفُه غيرُها !!
عينايَ الحائرتان وفمي يسألون أمّي سؤالاً أخرسَ وحروفاً بكماءَ .
أين نحن ؟؟ فتقفُ القضبانُ على فمها لتأسرَ كلماتِها .
أنظرُ لعينيها اللتين تناشداني بالصبر وتعتذران بمساحة سبعةَ عشرَ عاماً !!
المرأة تعبث بأفواهنا ، تدفع عينيها داخلها تبحث عن شىء آخر !! نلفظ عينيها لنكمل رحلةَ الأسلاك.
نصل إلى أحد الأبوابِ التي اعتدتُ صلابةَ وجهِها ، تقف تماثيلُ لرجالٍ نُحِتوا من رخامٍ لا يعرفُ الابتسام.
يأخذ منـّا المؤونةَ ، يفرغُ الطعامَ غيرَ عابئٍ بعذاب صُنْعِه ، أو شقاءِ ثمنِه ،
فيمزق كلَّ شىء ، حتى صارت حبةُ السكرِ تقسِمُ له وهي تتصبّبُ عرقاً ، إنّها
لا تخفي شيئا حتى تذوب رعباً !!
يأخذون الأطعمةَ ويلقونها كالقمامة !! أمّي تُخفي وجهَها وتغلق جفونَ أذنيها حتى لا تسمع تنهداتي الحائرةَ السائلة ، تشعر بهول تلك المشاهدِ على مسرح مشاعري ، وشوقي لغلقِ الستارِ حتى ينتهي هذا الفيلمُ المرعب !!
أجذب أمّي ، فتصرخُ وكأنّ يدي قضَمتْ يدَها !!
:- انتهينا ، آخرُ الرّحلةِ هنا .
يقذفوننا في مكان آخرَ ، كان كتوأمٍ متماثلٍ لباقي تلك الأماكنِ التي ترتدي نفسَ الزيِّ الموحدِ ، وتزيّنُ جيدَها بالعديد من الأسلاك !!
كلُّ العيون هنا سجينةُ الشوق ، بكماءُ ، خلفَ قضبانِ الاشتياق ، يغلقون علينا الأبوابَ خوفاً من أنْ نهربَ ، سجناءُ بلا جريمةٍ اقترفناها ، واسأل......
:- هل كلـُّنا نعيش كابوس واحد ؟؟
المكانُ مزدحمٌ بمشاعرَ متناثرةٍ ، حروفٌ ممزقةٌ من الوهن والشقاء، كلُّ الحاضرين يجلس ، بجواره حقيبة مملوءة بحكايات ومشكلات وهموم تنتظر ان تفرغها أمام أحد !!
تخيلت أنّ الشمسَ لا تدخلُ المكانَ ، خوفا من أنْ تُرسلَ أبناءَها لتنيرَ المكان ، فيأسروها ولا تعودُ لأحضانها !!
يفتح بابٌ ، يدخل منه رجالٌ الشوقُ يفترش سماتِهم ، تزاحمه علاماتُ الذلِّ والشقاءِ والقهر ، يتفرسُ وجوهَهم رجالٌ عابسون ، ملامحُ الإجرامِ تستعمرُ بعض الأعينَ !! أخاف انكمشَ داخلَ نفسي........
تجلس امرأةٌ ومعها ولداها الصغيران ، تنظر صوب الباب من وقتٍ لآخرَ ترسل قلبَها يبحث عن شخص ما !!
يأتى رجلٌ إليها !! وجهَه كلـَّه حزنٌ ، يجري بلهفة يحتضن الولدين فيغرقان في عمق صدره ، حتى كادا أن يخترقا ضلوعَه !! يمد يديه للمرأة فتباتُ اليد على فراش اليد الأخرى تأبى أن يوقظها أحدٌ ، يتهامسان اليدان بالشوق المرسوم على خطوطهما.
:- كيف حالك والأولاد ؟؟
:- أيُّ حال ، التى تسأل عنها ؟؟ بعد رحيلك عنا ، أصبحنا كالموتى بالحياة!!
:ـ من أين تنفقين على الأولاد؟؟
فتبكي بكاءً حاراً !! يذيب القلوب القاسية ، ويردُّ عليها بنشيج .
:ـ يا رب ، أنت تعلم أنّي بريءٌ ولم اقترفْ ذنباً ، ما أقسى العجزَ ، و قهرَ الرجال
ما أقسى حكمَ النفس على النفس!!
فأحوّل أذني عنهما حتى لا تسمعُ حديثَ الشجن، فكفى ما سمعت وقد امتلأت أوعيتي
بدمٍ باكٍ .
انظر هنا وهناك أبحث عن........
فأجد عينى تتعقب خطواتِ الرجل ، الذي كان معنا بالسيارة .
يدخل النزلاء ، وأنا أترقب ملامح الرجل تتغير تدريجياً ، هالني مظهرُه !!
انتظرتُ بشغف عجيب ، يدخل فتىً تتجه مشاعرُه نحو الرجل !!
يجري الرجل تجاهَه ويلقي علينا كل عذاباتِه ، ناسيا كلَّ ما كان ، فيحتضنُه حتى
وهو ينحر قناع حزنه فداءاً لرؤية حبيب عمره !!
أجمع قطراتِ دمعي من فوق زجاج عيني ، الذى جعل الرؤية ضبابية!!
أفيق بعد رؤية تلك المشاعرِ التي تتحرك أمامي ، بقبضاتٍ توجهُها إلى وجداني فيئنُّ وجعاً.
ألتفتُ لأمّي ......
:- لماذا نحن هنا ؟؟ هل نزور أحداً ؟؟ ألنا أقاربُ مدفونون هنا ؟؟ ومن يستحق كلَّ هذا العناء ؟؟ أخبريني.
فتدكُّ حائطَ الصمت ، بحروف زادتْ الحوائطَ ارتفاعاً وقوة وثباتاً !! ويا ليتها صمتت للأبد!!
:- إنـّه أبوك يا هناء .
:- أبو مَنْ ؟؟
:- أبوك .
أضع يدي على أذني ، هل أنا فقدت الحاسةَ التي خُلقْتُ من أجلها ؟؟ فأسمع همهماتِ أناملي وهي تدقُّ طبولَ أذني ، بدقاتِ حزنٍ لها دويٌّ قاتلٌ !
:- أبي ، الذى لم أره منذ سبعةَ عشرَ عاماً ، الذي بِتِّ الليالي تنسجين على أنوال ادعائك ، أحاديثَ بطولاتِه ، وهزيمةَ الزمنِ أمامَه !!
ماذا تقولين ؟؟ أتريدين الآن أن أقتلعَ جذورَ صورته التي علقتِها على حوائطِ وجداني ، أمزقها وألقيها بيد ازدرائي .
سبعةَ عشرَ عاماً !! لم يربتْ يوماً على مشاعري ، لم يبثَّ في صدري رائحةَ دفئه ،
لم يوثقْ يديه خلفَ ظهري ، كأنها سياجٌ يحميني ، لم يحملني ويدور بي في فضاءِ قلبِه الرّحْب .
حَرمني من كلمة أبي ، تقولين مسافرٌ !! مسافرٌ لبلاد لا تبعده عنّي سوى قضبانُ
لا تعرفُ الرحمة ، وجوازُ مروره جريمةٌ اقترفها .
سبعةَ عشرَ عاماً ، أتخيل أنّه سيعود ، معه لعبتي ، فستانٌ جديدٌ أتباهى به أمام صديقاتي ، كم انتظرتُ أنْ يأتي ؟؟ انتظرتُه فاتحاً ذراعيه ليحتضنَ شوق عمري الذي عشته وحدي، تمنيتُ أنْ ألقي على كتفيه رأسى بلا خوفٍ ، و أغوصَ في حلم وجودِه.
أن يجمعَ حُلمي بين يديه، ويلقيه فى يد الشاب الذى يفكر فى الإرتباط بي.
ماذا فعلَ ليسجنَ ؟؟ ويسجنُني معه في سجون اليتم وهو حيٌّ.
ألم يتذكرني فلا يقترفُ ذنباً ؟؟ ألم تعلمْه أبوّتي الجبنَ والخوفَ من أنْ أضيعَ
بعدَه ؟؟
يخرج رجلٌ !! يقطع حبلَ الحروف على لساني ، فأقارن بين صورته الأبيضِ والأسود ، على تلك الملامح الملوّنة !!
نعم ، إنّه هو لكن هذا الوجهُ به خبثُ الألوان ومراوغتُها !!
يضمني .... يتخيل أني سأعانقه بشوق بحجم عمرى، شعرتُ كأنى الأرضَ ، تخنقني خطوط يديه العرضية ، فألفظ الباقى من شوقي له !!!!