* * * * *
كانت المشاهدُ عرضًا مكرورًا إلا قليلاً: محطةٌ وقطار، سيارةٌ أقودُها، وفتاةٌ مسافرة!
لدى المحطةِ الأولى.. ما كدتُ أصلُ حتى لاقيتُها.. فاتنةٌ ما رأتْ لها –قطُّ– عيني مثيلا! ولا عهدتني لطيفا كحين استوقفتها، ودودًا، مهذبًا، يسيل من فيَّ شهدُ الحروف؛ فتبتسمُ، تضحكُ، ولا تزيد! ثم عصف بها الغضب: "نسيتُ معك نفسي؛ فتحرك القطار ولم أركبْ!".. فأبتسم: "لا ضير.. أوصلك – بسيارتي – للمحطة التالية". انطلقتُ.. حمدا لله أن هداني أملأ خزان الوقود عن آخره.
"وصلنا" زفرتُ هابطًا أفتح الباب لها، "ولم يصل القطار بعد!"، غمرت وجهها الابتسامة العذبة: "سامحني.. قسوت!".. صافحتني.. شدت على يدي.. سكرتُ! غشيتني نشوةٌ عجيبة! ما شعرتُ بانسحابها، ولا بتحرك القطار! لكنّ صورةً ظلت تسكن اللاوعي: "لم تلتفت.. شُغلتْ عني بأحد القطاريين!"
قبلما أغادر المحطة الثانية.. رهطٌ من مُيّعِ الشباب أعشار الرجال، تولوا بالمعاكسات حسناء فزعة، تخطو.. يعترضونها.. عيونٌ غامزة.. عبارات لزجة.. تتلوّن خجلا.. تتعثر.. تشرفُ تسقطُ.. "أيها الأوغاد!" من حلقي صيحة – بلا إذني – بعثرت الجرذان؛ فخلا - إلا من كلينا – المكان!
لم أُعنَ بمحادثتها، أو حتى الاقتراب إليها؛ إذ ما برحت عينيها نظرات الخوف! أدركتْ نيتي؛ فاطمأنتْ إليّ.. تزلّفتْ.. راحت تحدثني؛ فاضطررت – وتحرك القطار – أوصلها – بسيارتي – للمحطة التالية، وما زال الوقود وفيرا، ولكنّ صورةً ظلت تسكن اللاوعي: "لم تلتفت.. شُغلتْ عني بأحد القطاريين!"
اختلف في المحطة الثالثة وجه المليحة وأسلوب اللقاء فحسب؛ إذ خشيت – وهي الصغيرةُ – ركوب القطار بلا رفقة تؤنس الوحشة، وتطوي السكة.. اعتذرتُ: "لستُ قطاريّا!"؛ فألحّتْ.. توسلتْ.. راحت – لأقتنع – تتحدث بلا انقطاعٍ حتى.. حتى تحرّك – وخلّفها – القطار!
أحرج مروءتي عتب الأطفال؛ فأوصلتها – بسيارتي – للمحطة التالية، وفي الخزان وقود، ولكنّ صورةً ظلت تسكن اللاوعي: "لم تلتفتْ.. شُغلتْ عني بأحد القطاريين!"
المحطةُ الرابعةُ.. الخامسةُ.. العاشرةُ.. لم يزل المشهد يتكرر.. وينفد الوقود!
تامر مقداد
الجمعة 13/8/2004م
15:12