تساءلت لوهلة لماذا يوجعنا جحود الأبناء أكثر مما يوجع غيرنا من الأمم التي تعانيه مجتمعاتها بصورة أكبر وأعتى، ووجدت الإجابة في حصرنا عوالمنا بأبنائنا، وإغلاقنا دنيانا عليهم، سيما بعد تقاعدنا من وظائفنا وتزايد أوقات فراغنا وحاجتنا بالتالي للصحبة من حولنا، بينما يبدأون هم بتوسيع عوالمهم وفتح أبوابها على شؤون تخصهم وعلاقات تمتد وتمتد بعيدا عنا، فأينا المخطئ في هذا؟ وهل فيه خطأ أصلا؟!
كثيرة هي القصص والأدبيات التي تناقش انشغال الأبناء ووحدة الآباء وافتقارهم للصحبة التي ينتظرونها في أبنائهم، مغفلين حاجة هؤلاء لبناء غدهم وأداء دورهم نحو أسرهم تماما كما فعلوا هم عندما كانوا في مرحلتهم العمرية والأسرية، وكثير ما يلقى عليهم (الأبناء) من لوم حتى ليتصورهم المرء خطاة جاحدين، ولو فعلوا غير يفعلون لكان جحودا وتقصيرا باتجاه آخر أقسى وأظلم للمجتمع بعمومه، فالزوج والأبناء في حاجة للرعاية والمتابعة والتعبير عن الحب، والاهتمام الذي يقيهم الوقوع في مكائد أخلاقية تحاك للجميع على مستوى العالم بأسره، فيما يشبه مؤامرة كونية بات تفسيرها شغل االكثيرين من الكتاب والمحللين، وبات معها حضور الآباء الصغار يقظين متابعين ضرورة لضمان حماية المجتمع كمتضرر أكبر من الانحرافات الممكنة.
فكيف يكون تحقيق التوازن في هذه المعادلة التي جعلناها مستحيلة وهي الأيسر لو أحسنّا تدبيرها، وعاينّا المشهد بشئ من الإنصاف غير متحيزين لأحدهما ولا منكرين حق الآخر بأن يمارس حياته طيبة متفقة وحاجاته وتطلعاته لغد لا يملك مؤمن ولا غير مؤمن أن يدّعي العلم بمداه، ولا يحق لعاقل أن يسقطه من حسابه أو يطالب غيره بإسقاطه بحجة ما بلغ من العمر أو أن عمره ما يزال أمامه طويلا ... وهل يعلم العمر إلا الله؟!
إن ما يبدي بعض الآباء من رفض للانتقال للعيش مع الأبناء بحجة الارتباط بالمنزل الذي وسعهم في صغرهم، والذكريات التي تسكنه، والاستقلال الذي يتحقق لهم فيه، سيبدو ببعض عدالة في الرؤية ظلما لمن يُفرض عليهم أن يقيموا أسرى لذكريات الآباء أو أن ينسحبوا ليتمزقوا بين بيتين في كل منها من يحتاجهم معه، وله في ذلك حق مشروع،
وبالمقابل فإن ما يبدي بعض الأبناء من حجر على آبائهم وتضييق متذرعين بما أحدث فيهم تقدمهم في العمر من ضعف صحة ووهن قوة، وما يوجهونهم نحوه من اكتفاء وخلود يائس لانتظار الموت، هو سلوك مجرم في حق من بذل حياته ليهبهم الحياة.
للكبار بزعمي الحق بأن يحتفظوا باستقلالهم ما دامت لهم عوالم ترضيهم وتكفيهم، وما داموا قادرين على اعتبار ابنائهم الذين استقلوا بحياتهم جزءا من دنياهم لا كلا تنحصر به فإن غابوا خلت، وعلى الأبناء أن يشجعوهم على ذلك إن حرصوا على استقلالهم هم وأن يعينوهم على الانطلاق في أحلام وبدايات جديدة كل بحسب اهتماماته وميوله واستعداداته، وكأنما العمر أمامهم ما يزال في أوله بغض النظر عن أعمارهم المحسوبة بالسنين ما داموا قادرين، فاتساع عوالمنا يحرر من قيودنا من يتحولون لأسرى لنا أو عبيدا آبقين إن باتوا هم عالمنا كلّه