( استئصال )
قصة بقلم / محمد محمود محمد شعبان
بعد ساعات من العمل الشاق يجلس يلتقط أنفاسه في حجرة مكتبه بعيدا ـ بعض الشيء ـ عن رائحة التعقيم الخانقة وأصوات الآلام المفزعة .. يحك لحيته الصغيرة المشذبة المهذبة .. ينزع السماعة عن رقبته ... رأسُهُ يكاد الصداعُ يشقه نصفين .. يسنده بكفه ويتكئ بمرفقيه على المكتب .. تقع عينه على تلك الورقة .. آه إنها ورقة التحليل الذي طلبه من ذاك الرجل هذا الصباح .. لقد كان الرجل في حالة يرثى لها عندما دخل حجرة الكشف بابنته الشابة ذات العشرين ربيعا صائحا
: ـ ( انجدوني يا خلق الله . الحقني يا دكتور) ..
وكانت الشابة في شدة الألم تعاني .. تضغط على خصرها منحنية بجسدها .. على الفور أوقع الطبيب الشاب الكشف عليها ، وكتب لوالدها بعض التحاليل المطلوبة فورا .. تأكد الطبيب الشاب أنها ( الزائدة الدودية ) وبلا تردد طلب نقل الشابة على الفور لغرفة العمليات لأن الحالة كادت تطور ويجب الاستئصال حالا ، وهنا برزت خبرته وجرأته فألهم القرار المناسب في الوقت المناسب .
وتمت العملية بنجاح ـ والحمد لله ـ وتم استئصال الزائدة الدودية ، وسبحان الله ورغم أنها جزء من الجسد ولها أهمية بالنسبة للجسد كله إلا أنه وجب استئصالها لمَّا أصبح هذا الجزءُ الصغير خطرا على الجسد الكبير كله ، ثم نُقلت البنت لغرفة الإفاقة في الوقت الذي حضر فيه الأب المكلوم في ابنته الوحيدة والتي ليس له في هذه الحياة غيرها .
:ـ طمِّني يا دكتور كيف حالها الآن ـ قالها وهو يناول الطبيبَ ورقةَ التحليل.
: ـ الحمد لله .. ما هذا يا عم الحاج ؟!
:ـ ( إنه التحليل الذي طلبته مني يا بني ) ـ كان يبدو عليه الإرهاق ، وبدا في جلبابه وعمامته شاحبا مؤرقا .... تناول الطبيب الشاب الورقة مبتسما ..
:ـ اطمئن يا عم الحاج لقد تمت العملية ونجحتِ والحمد لله .. لا تقلق .. ابنتك في أمان الآن وبعد فترة ستخرج معك إن شاء الله ، ولكن ـ يا عم الحاج ـ أنا طلبت من حضرتك تحليل لابنتك وليس لك !.. عموما لم نعد بحاجة للتحليل لقد عرفنا الداء وكان ظاهرا للعيان واستأصلناه بسرعة حتى لا يؤثر على باقي الجسد ، وأنا سأكون في مكتبي إن احتجت لأي شيء .
كل ذلك مر بخاطره بينما هو على مكتبه يحتسي فنجانا من القهوة يحاول أن يقتنص بعضا من الراحة ريثما يواصل عمله الشاق فالطوارئ لا تنقطع عن المستشفى ليل نهار ... لفت انتباهه الورقة المقلوبة على المكتب ورقةُ التحليل .. أخذته ( هستريا ) الضحك مما فعله هذا الرجل الريفيُّ البسيطُ .. ظهر أنه أميّ وثقافته لا تتعدى ـ بحال من الأحوال ـ الحقل الذي يملكه ، ولكن ذلك لم يبد أبدا على ابنته وهي ترتل أثناء خضوعها ( للبنج ) آيات من القرآن ، وتتحدث بمواقف حدثت بينها وبين زميلات وزملاء لها ـ ذكرتهم بأسمائهم ـ وأخذت تردد وتكرر
:ـ ( يا جماعة .. المستقبل في الزراعة .. المستقبل في الصحراء ). ظل هو في عمله دائبا ومن وقت لآخر ينظر لوجهها الصبوح الملائكي ، ويستمع لكلماتها القوية المحفزة .. عرف من تذكرة دخولها للمستشفى أنها تعمل معيدة بكلية الزراعة .. الممرضة بجانبه لاحظت ذلك فقالت
:ـ ( أكثر الله من أمثالك يا بنيتي يا رب ـ وبنيةٍ طيبة ، وبمنتهى العفوية قالت :ـ ربنا يجعلها من حَدَّكْ ومن نَصيبكْ يا دكتور ) .. ضحك الطبيب الشاب وهو ينظر للممرضة الطيبة ، وطلب منها أن تجفف عرقا سال من جبينه وطال لحيته المشذبة المهذبة ، ثم واصل عمله الدءوب.
ولكن في مكتبه تحول الضحك والقهقهة لصمتٍ وحزنٍ عندما مدَّ يدَهُ وقَلَب ورقة التحليل ليُفَاجَأَ بأن الرجل المسكين مصاب بسرطان الدم ، في هذا الوقت تذكر هيئة الرجل عندما دخل للمستشفى مع ابنته وهو يبكي ويصرخ :ـ ( ابنتي الوحيدة أرجوكم البنت هضِّيعْ من إيديا ) .. اغرورقت عينا الطبيب الشاب بالدموع ، وهَمَّ منطلقا ليخبر الرجل ، لكنه ولمَّا وصل لغرفة الإفاقة لم يجده ، ووجد الشابة بمفردها بدأت تستعيد وعيها شيئا فشيئا .. أرسل إليها نظراتِ إشفاقِ حانيةً بينما كان يُجري لها بعض الفحوص ويقيس لها النبض وغير ذلك ... فتحت عينيها .. تدور بهما في أنحاء الغرفة
:ـ ( أين أبي ؟ .. أين أنا ؟ .. ماذا حدث ؟ )
:ـ لا تخافي .. اطمئني .. أنت بخير .
دخلت إحدى الممرضات مسرعةً
: ـ إلحقْ يا دكتور
: ـ خيرًا ؟!
: ـ نحتاجك في الطوارئ حالا .
: ـ حاضر .
همست الممرضة في أذنه بينما هما ينطلقان لقسم الطوارئ
: ـ والد الشابة سقط مغشيا عليه ، وحالته خطيرة جدا ، والأطباء حوله هناك .
القدر كان أسرع من الطبيب ، فلم يستطع معه صنع شيء للرجل المسكين ، ولم يسمع منه سوى همهمات .
:ـ (خلي بالك من بنتي يا دكتور ) .. وفاضت روح الأب لبارئها .
أغلق الطبيب عيني الرجل مرجعا ومحوقلا ، وغطى وجهه ، وقال بصوت يملؤه إصرار وثبات : لا تخف يا عم الحاج .. الأمانةُ معي ولن تضيعَ أبدا ـ بإذن الله ـ .
================================
تحيتي
محمد محمود محمد شعبان
حمادة الشاعر