لم يتبق للمدينة من وجه النهار غير خجل تورد على الشوارع
خجل مما فعله المارون بها
وخجل من عري الأرواح الذي لم تفلح طهارة الغروب في غسله
حين تخلط الارواح قبحها في دخان السيارات
وعبايات النساء
وعلى صدور الاسواق المكتظة بالتناقضات
وحين يحين الغروب
تغرب معه الكثير من الأشياء
حتى أسئلتي التي لم أجد لها جوابا ترحل بصمت
تشيع غموضها ثم تنذوي مثل خيوط الشمس حين تغيب في الفضاء وتودع النهار
يحين الغروب
يرحل النهار
تلوح الشمس بكفيها
تقتبس مابقي من ذكريات
ثم ترحل غير آسفة على شيء من آمالنا التي لم يتحقق منها شيء
غير وجع يلهب الروح بسياطه الملتهبة
حان الغروب
فرحت المدينة
اعتادت أن تفسق بعد الغروب
حتى العاهرات والقانتات لا يعرفن طعم النهار
ولاروعة الصباح
حين يتوضأ النهار بطهر زغاريد الطيور
وحين يستحم الكون بخيوط الفجر البهية
النساء في قريتي يعشقن الصباح مثل عشقهن لأزواجهن
وأولادهن
وحين يصدح الأذان بخشوع
يهجرن كل شيء
حتى لحظات المتعة
ويشرق في أرواحهن عالم آخر من البهجة
ويوم جديد لا يحمل في تفاصيله سوى تعب لذيذ
وبهجة تذوب أمامها صخور الجبال حين يذهبن لالتقاط أعواد الحطب
النساء في قريتي لا يلبسن عباءات مخصرة
ولا يعرفن رائحة العطور
ولا التسكع في زوايا الاسواق
لكنهن يعرفن جيدا معنى الحب
والفناء في عالم يمتلئ بالبهجة والسعادة
لايعرفن عيد الحب ولم يسمعن به
أيامهن كلها حب
ولياليهن كلها عشق
يزرعن البسمة في شفاه الكون
والناس
والجبال
والحقول
ولا أحد ينظر اليهن بريبة
قالت لي جدتي يوما
- كانت العائلات تختلط في (ديمة) واحدة
نأكل رغيفا واحدا
ونشرب من كأس واحدة
ثم ننام في تلك ال(ديمة)
وحين يحين الغروب في قريتي البعيدة
تجتمع الطيور كلها
تنشد بصمت حزين
ثم تخلد إلى أعشاشها
العصافير
والطيور
والنسور
كلها تحتضن بعضها
وعندما حدثت جدتي عن (القهاوي) والاستراحات والكوفي شوب
قالت لي : هل تجدون فيها ما يغسل أرواحكم !!
أجبت بحزن
- لا
***
فمن يسرقني من هذه الضوضاء !
من يغسل وجع روحي؟
من يذهب بي إلى ذلك النهر الجبلي في قريتنا البعيدة
يبتسم النهر
الأرانب تفر بمرح
الغزلان تختفي بين الزروع
ثم تظهر وهي تتراقص على نغم الطبيعة الجميل
من يأخذني إلى شرفة منزلنا القديم
أتصفح الحقول بعين عاشق
وانغمس بين الأشجار بلوعة مشتاق
أتلذذ بصراخ الأطفال البسطاء
حين يسرقون السنابل خفية من الحقول
أه أيتها القرية
ليتني كنت شجرة مغروسة
يستظل بها الفلاحون والرعاة
وتنام الأغنام في ظلها وقت القيلولة
من يسرقني من وجع المدينة
وبؤس الشوارع
يرميني إلى آخر حقل
في تلك المدرجات التي بناها الأجداد وبنوا معها الشموخ
في أزمنة الإنكسار