دمٌ في السماء .. دمٌ في الطريق
كم كنتُ حزيناً ،
كم خجلتُ ،
حين نظرتُ الشجرة العارية من أخضرها ..
فقلتً سلاماً أيتها الأم
حارسة الرصيف
والعمر الذي يزرع عند الصباحات
أيامه اللاهثة ..
كم حزنتُ ،
كم انتابني ذاك الخشوع ،
حين كانت الشجرة
سامقة ،
تحرس ظلها ..
نظرتُ إلى مدى بصيرتها في السماء،
فرأيتُ كفيّها النـازفين،
وما رأيت العصافير ،
ولا بياض الغيوم
وما سمعت صدى الصوت الذي
مات في رائحة الموت،
بعد أن حطت خرائبه
على ربيع الحـياة ..
**
(قال الـراوي: سقـطُ مني الكـلام سهواً، وتلعـثم لساني، وتـذكرتُ
صوت أمي قبل موتها، حين علمتني حكمة: يا بني، بعـد كل أزمة
خـرابٌ أو حـرب ، فصدقـتها ، لأنـها كانت ترى ما لا أرى ، وحين
رحـلتْ ، قلت لنفسي : مـاذا تبقى لنـا على عروش التـراب سـوى
الغبـار واليـباب، وقلت لربي العظيم أحمدك، لأنني ما كنت لأحتمل
أسى أمي بالذي نرى)..
**
وحين ، صار الدخان هو الرئة الوحيدة ،
قام كافر يوزع الجمر وأشواكه السوداء على المارة ..
وكان يهذي بنبوءة ابن سبأ حين أراد له رباً مختلفاً
يطلب منه مصحفاً مختلفاً ، على قياس كفره ..
وصار يصدح جهاراً للذين اصطفوا وصفقوا له ..
وعبأوا صرته بالدنانير،
فانحنى
وتلوى
وتمطى ،
وكاد يأكلني لولا رحمة الرحمن ،
فاشعل نيرانه في الياسمين
وأعشاش الحساسين..
ونحر القرابين لمعبده ..
..
قلت سلاماً أيها الرب العظيم
سلاماً أيها الرب الرحيم ،
من أين يا رب جاء كل هؤلاء الشياطين
بغواية الكفر ،
وممرات النكوص عن الخليقة ..؟!
وأنا الذي ما كنت
باسطاً يدي لأقـتلهم ..؟
**
(وقال الراوي : قلتُ في لحظة شائكة لنفسي: الحمد لله، لم تسألني أمي
عن هـؤلاء الذين وزعوا أرواحـهم على تلك الأرصفة، ولونـوا السماء
بالأحمـر القاني ، فأنا والله لا أحتمل أسى أمي ولا حـزنها، فأنـا أعـرفها
تماماً حين تحزن ، تنـام على جنبها الأيمن، فلا تـأكل ، وتعبث بأي شيء
حولها، تـزيح حزنها لسؤال: يـُمه، ما أخبار(..) فـذهلت حين علمت أنها
كانت تـتابع الوجـع المقيم، وأنها بكت حين تشابه عليها القتـل ،فشعـرتُ
بانكسار شديد، وحمدت الله، فقـد رحلت ولم تسألـني عن الربيع العـربي،
ولو فعلت لظنت أنني أهزأ بها، وأنني ، معاذ الله ،على وشك العقوق..!)
**
الساعة واقفة عند عقربها ،
والصوت فوق الصوت ،
والناس الطيبون يتخاطرون مع وقتهم
وهواجسهم ، وخطواتهم .
أنا أعلم تماماً أن العابرين
يلقون التحية على الأرصفة
والجدران
والياسمين الفائض عن حاجة النوافذ
وأعلم يقيناً أن النسائم تنقل الرد
عطراً ، وعبقاً ، ومحبة ..
سألت نفسي :
كيف تنتصر الشياطين على ذاتها ،
وكيف تأتيها الهواجس البشرية
فيكون عصيان الرب ،
وتبرق المعصية
ويطل الإنتقام برأسين
أسودين
بعيون محملقة في الفراغ ،
فتفرد سواد عباءتها
وموتها ،
وتوزع لكل عابر
رطلين من حريق ،
وقارورة موت لكل طفل ،
وللبالغين عناقيد الديناميت..
فيصمت الشارع ،
ويصمت المارة ،
ويصمت الأطفال ،
فيختلط الدم والنار،
وتتعرى الشجرة من أخضرها ،
من هول الفجيعة ،
فتمد روحها للسماء ،
تخاطب الإله الخالق ،
في انتظار غيمة ، ليست عابرة
بل ، محملة بالبرق والرعد
في مخاض المطر ..
..
**
(وقال الراوي: قـالت أمي: لعنة الله على الظـالمين . فأنصت لعسعسة الليل،
حين النجوم كأنها في كـدر، وكـأن الأرصفة ثـكلى حين غـابت خطوات المارة
فما كان مني ، قـال ، سوى البحث في أشيائي كلها، عن زاويـة للحزن، فمـا
وجدت إلا روحي أعتصرها كقطنة مبللة، لكنها كانت تنز ّ دماً.فنمت عليها..)
..