فيروز .. (كيفك إنتِ..؟)
قليلون هم الذين يصنعون الذاكرة النبيلة ..
وأقل منهم أولئك الذين يحملون هذه الذاكرة ..
ذاكرة تردُنا إلى تلك الصباحات الأنيقة ..
صباحات ،
كان صوت فيروز يعطرها ويعطيها لحناً إنسيابياً كمرور عاشق ..
لحن وكلمات ما توافق معها الكثيرون وقتها .. بخاصة في أقاليم وطننا المختلف.. وحتى الآن نعاني إفرازات هذا الاختلاف ..
فيروز ،
اسم ، وفعل ، وفصول سنة ، ووطن كامل ..
وحين نتحدث عنها هنا ، ندرك أن هناك الكثيرين الذين نحبهم ، سكنوا وجداننا على مر السنوات ، قبل الهجمة المسعورة والغث والراجفين والمرتجفين والعراة والمنحرفين الذين اعتدوا على الغناء، وعلى الكلمة المحترمة..
فيروز ،
صحوت على صوتها وأنا في بداية المرحلة الإعدادية ..!
مثلما صحونا على أصوات عبدالحليم وفريد وأم كلثوم وفايزة وشادية، وغيرهم .. لكن هذه المخلوقة الفيروزية، كانت فريدة في صوتها ، وفريدة في التعبيرعن الكلمات والموسيقى الرحبانية ..
ذاك الثلاثي: عاصي ومنصور وفيروز ، صنعوا مدرستهم التي لا يطالها أحد ، ولا يقلدها أحد ..
وغنت فيروز بصوت كأنه جاء من نحاس أو قـُدّ من صوان جبل أشم ..
فيروز ، اشتغلت على الوجدان والعاطفة ، وصنعت لنا وطناً صوتياً تسلل إلى الأذن والوجدان ، وجعلنا اكثر شفافية في تقبل الكلمة واللحن ..
صنعت منا في وقت ما ، أطفالاً نلهو على التلة المجاورة ..
وأطفالاً تلاحقهم الحروب .. وأطفالاً يلثغون بكلمات الحب ، وكتبت هي عنا اسامينا على الحور العتيق وقلنا معها (حبيتك تنسيت النوم ..!).
صنعت لنا وطناً نذكرها كما نذكره .. فهذه زهرة المدائن التي مازالت تلوك الفؤاد حسرة ووجعاً ..
وهذه مكة التي غنتها وأهلها الصيد ...
وهذه الشـآم وأهلوها ..
وهذا جبل لبنان الشامخ ..
وهذا الإنسان الإنسان في كلماتها وصوتها النبيل ..
فيروز ، علمتنا في لحظة الفطام كيف نتغذى على العاطفة .. وكيف نلهو ببراءة ، وكيف ننتظر الحبيب عند (العليّة) في آخر الشارع .. في لهفة وخوف..!
وحين كبرنا قليلاً ، فهمنا الوطن من الكلام الحلو النظيف ..
وحين نبرح الوطن قليلاً ، وتبتلعنا مدن الاغتراب ، نقول لها ردينا إلى أوطاننا ..
فيروز ،
هذه المطربة المحترمة، رغم كل هذه السنوات ؛ لم تغير مسارها ، ولا أفكارها ، ولا وطنها ، ولا حبها للناس ، ومحبوها لا يتغيرون..
فيروز ،
مخلوقة عجيبة ..
حين تقف لتغني ، ننصت بحب ..
وحين تكون على المسرح ، تصمت الحواس كلها ..
فهي تقدم الفن الرفيع الذي يتوجب احترامه ..
فيروز ،
هذه العجائبية في خطواتها وحركاتها وشموخها ، مدرسة صعبة ، ما استطاع الأقزام الالتحاق بها أبداً ..
لذلك ، نتوق لمثل هذه الإنسانة الراقية ..
نتوق للفن النظيف الذي يحكي همومنا .. ويعكس عواطفنا، ويغذي الذائقة..
لحاسة السمع شأن عظيم من حيث الأسبقية الحسية ، لذلك ، فإن كل ما يخالف هذه الحاسة المعجزة يعتبر نشازاً يجب تعطيله.. وكل مايخدش هذه الحاسة يعتبر كما قال الرحمن (من أنكر الأصوات)..
نحن كلنا ، علينا التوقف أمام الغث الجارف حتى لا يفقد أطفالنا فطرتهم الصحيحة ، وحتى لا يشبوا على غريب اللفظ والصوت.. والصورة.
أيتها الفيروز،
كاد يقتلنا الربيع ،
متى ترجع الشتوية، متى يرجع الهوى ..؟
قلتِ لنا آلاف المرات ( كيفك إنتَ ) ..
وبكل حواسي ، أقول لك :
كيفكْ إنت ِ ..؟!
.. كم أحبك .
..