حجم انجازات ضخم بالفعل ، وأبهرنا عرضُ الدكتور اسماعيل سراج الدين بالأرقام والاحصائيات ، والى أى مدى وصل مستوى التنافس بين مكتبة الاسكندرية ونظيراتها عالمياً على كل المستويات . وخلال سرد الانجازات المُبهرة فى فترة قياسية ألمحَ مدير المكتبة – فى افتتاح مؤتمر المفكرين والمثقفين السنوى يوم الجمعة الماضى 27 ديسمبر - الى تلك الحالة شديدة الحساسية وذاك الموقف التاريخى الذى يحمل الكثير من الدلالات والاسقاطات ؛ فشباب الثورة – فى بداياتها البريئة العفوية – حموا المكتبة بأجسادهم وصنعوا علماً لمصر بطول مداخلها ووقفوا متشابكى الأيدى يدافعون عنها ، بينما طالَ التخريب والحرق أماكن أخرى . وقد ذكر الرجل سبباً وجيهاً لذلك ، عندما أكد أن المكتبة ليست ملكاً لنظام سياسى ولم تلعب يوماً أدواراً سياسية ، ثم عرض صورتين احداهما للافتتاح التاريخى بحضور الرئيس الأسبق مبارك وحرمه ، وصورة أخرى للرئيس السابق الدكتور مرسى مع مجلس الأمناء ؛ فالمكتبة ملك للشعب ورسالتها ثقافية علمية ، فضلاً عن مكانتها الدولية وتأثيرها الحضارى وبعدها التاريخى . انتقلنا للجلسات النقاشية المغلقة وورش العمل ، وكانت الجلسة التى اشتركتُ بها فى غاية الدسامة والتنوع بالنظر الى قامات وتاريخ المشاركين فيها ثقافياً وفكرياً ؛ فكان فيها – ليس على سبيل الحصر – الأستاذ الدكتور قدرى حفنى والدكتور حسن نافعة والدكتور عماد أبو غازى والدكتور ماجد موريس والأستاذ جمال سلطان والكاتب اكرام لمعى .. الخ ، وقد اصطحبتُ معى تلك الفكرة الأساسية التى زين بها الدكتور سراج الدين انجازات المكتبة على مدار عام ، لأضعها فى جملة افتتاحية لمداخلتى بين يدى توصياتى وملاحظاتى ؛ فقد شكرتُ وهنأتُ القائمين على هذا الصرح العملاق على هذه الجهود الكبيرة المبذولة لاستعادة ريادة مصر الثقافية . ومع الانجازات والحضور والتنوع وحرص الجميع على التأكيد على نبذ الارهاب الفكرى والاقصاء ، فضلاً عن ادانة الممارسات الدموية والعنف ، مع مشهد شباب الثورة – السلمية – وهم يدافعون عن المكتبة وتراثها ، كان لابد من أن أذكر " هيباتيا " فى جملة قصيرة سريعة ليس لها الا غرض واحد هو التمنى بأن تكون الآن مرتاحة فى قبرها ! يكفى هذه البلاد دماء على خلفيات الشحن الفكرى والأيديولوجى وبتصعيد العداء واشعال الكراهية ضد الآخر المخالف فى الدين والفكر والتوجه . الاسكندرية شاهدة على فداحة التعصب الأعمى والانغلاق المقيت والانحراف بالفكر الى الدموية والتوحش ، وشوارعها المكتظة بالحرية ومكتبتها العملاقة وشبابها الصادق ، رافضون لمن يسعى للانفراد بالزمان والمكان . سرتُ فى شوارع الاسكندرية وزرتُ أشهرَ ميادينها ومعالمها – على هامش المؤتمر – ولا يزال التاريخ ساكناً فيها وتلك البيوت ذات التصاميم العريقة فى القدم وتلك المعالم والآثار شاهدة جميعها على التنوع الحضارى ، وهذا سر جاذبية المدينة ومصدر ألقها . من ضمن المحاور والتوصيات التى طرحتها ضرورة ترسيخ ثقافة الخلاف ، وألمحتُ لتجربتنا التى رعاها المفكر الدكتور ناجح ابراهيم حيث كان طرحنا الثقافى على الموقع الذى يشرف عليه خادماً لهذا التوجه ، وما أكثر ما غنينا لمحمود درويش ومعين بسيسو وسميح وأمل دنقل كلماتهم وألحانهم فى المقاومة ، ودعمنا حنجرة الشيخ امام عندما تحدث باسم المضطهدين والمقهورين والمهمشين فى الأرض ، ولم نترك كاتباً ولا مبدعاً ولا ناقداً يشترك معنا فى الدفاع عن قيمنا ويسعى لغاياتنا الا استشهدنا به وكانت لنا وقفات مع انتاجه ورؤاه . هيباتيا فضلت الموت على التحالف مع التعصب والتعايش مع الانحراف العقلى والظلم والجهل والتطرف ، وكان دمها الذى أريق وجسدها الذى تناثر أشلاء قبل أن يُحرق دليلَ ادانة ، ليس فقط للمهووسين والمتعصبين فى القرن الرابع الميلادى ، بل ضد كل مهووس يريد العيش وحده على هذه الأرض . أسعدنى مشهد الشباب الذين وقفوا خلف علم مصر وقد تشابكت أياديهم يدافعون عن مكتبة الاسكندرية وتراثها وكنزوها التى عبثت بها قديماً يدُ التعصب ، انها نفس القناعة ونفس الغاية التى ناضلت من أجلها هيباتيا ؛ لكى تبقى الساحة ميدان حوار وجدال فكرى راق بناء ، لا أن تتحول ساحة مذابح وحرائق وتدمير وسفك للدماء .