أستاذي الكريم ،اتمنى أن أوفي الموضوع حقه ،وأن يكون تعديلي شافيا .ألف شكر لك استاذي
حَنِينُ العَوْدَةِ
اشْتَقْتُ إِلَى النّسِيمِ العَليل ،وإِلَى جَمَالِك الّذِي سَلَبَنِي قُدْرَةَ التّفْكِيرِ السّلِيمِ،وإلى العَظَمَةِ المُنْبَعِثَة مِن كِيَانِكِ وَرَوْعَتِكِ ،وَأَذْكُرُ فِي سِرِّي زَمَنِ الإِسْرَاءِ ،وَتَأْخُذُنِي رَوْعَتُكِ حِينَ كُنْتِ لِي قِبْلَةً أُولَى ،فَعَرَفْتُ أَنّكِ البِدَايَةُ ،وَإِلَيْكِ يَعُودُ الحُبُّ كُلُّهُ وَالخَيْرُ كُلُّهُ .
صَدِّقِينِي ،أُرِيدُ أَنْ تَنْزَاحَ عَنْ طَرِيقِي تِلْكَ الْأَسْوَارُ ، فَتَصِيرَ دَكًّا دَكًّا ،فَأَسْكُنَ إِلَيْكِ، لا نُفَارِقُ بَعْضَنَا، فَنَجُوب مَعًا فَضَاءَ المَحَبّة الرّحْبِ ،الّذِي تَعْلُو نَسَمَاتِه نَغَمَات مِنْ لَحْن اخْتَلَطَ فِيهِ الحُزْنُ بِالفَرَحِ ، وَتُطِلُّ عَظَمَتُكِ كَمَا يُطِلُّ الصُّبْحِ حِينَ يَتَنَفَّسُ مُزَيَّنًا بِغَبَشِهِ الفِطْرِيِّ، ذَاكَ الْجَمَالُ الّذِي يَنْسَابُ كَمَاء رَقْرَاق بَيْنَ خُضْرَة يَانِعَة،فَتَمْلَأُ بَهْجَةُ الْمَكَانِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرض .
كُنّا سَوِيّا، فَفَرّقَتْنَا دَوَّامَةٌ مِنْ عَاصِفَة هَوْجَاءَ وَنَحْنُ فِي سُبَات عَمِيق ،تَضَاءَلْنَا ،وَتَوَارَيْنَا ،وَنَحْنُ تَائِهَانِ فَحَدَثَ الّذِي لَمْ يَكُنْ فِي الْحُسْبَانِ .
يَوْمًا بَعْدَ يَوْم تَشْتَدّ رَغْبَتِي وَتَهْتَزّ أَوْتَارُ مَشَاعِرِي ،فَأَجِدُنِي أُقَلّبُ صَفَحَاتِ المَاضِي ،وَأَتَذَكّرُ الْجِنَانَ الْوَارِفَة ،وَنَحْنُ بَيْنَ الرّوَابِي نَلْعَبُ وَنَرْتَعُ عَلَى وَقْعِ خَرِيرِ مَاءِ السّوَاقِي، وَشَدْوِ الْبَلَابِلِ وَالطّيُورِ،وَأَنْظُرُ إِلَى عَنَاقِيدِ الْعِنَبِ الّتِي تَدَلَّتْ، وَتِلْكَ المُرُوجِ الخَضْرَاءِ الّتِي تَتَرَاءَى لِي مِنْ بَعِيد ،تُطِلُّ مِنْهَا حُمْرَةُ شَقَائِقِ النُّعْمَانِ الّتي تَزْهُو وَسَطَ حُقُولِ القَمْحِ الشّاسِعَةِ أَيَّامَ فَصْلِ الرّبِيعِ، فَتَكُونَ بِذَلِكَ فِي أَبْهَى حُلَلِهَا .
وَأَتَذَكَّرُ تِلْكَ الْأَهَازِيجِ الّتي صَاحَبَتْهَا رَقَصَاتُ "الدّبكة " وَالْفَرَحُ وَالحُبُورُ يَمْلَأُ الْمَكَانَ ،وَتِلْكَ الأَطْيَارُ الّتِي صَدَحَتْ ، فَعَزَفَتْ عَنْ فِطْرَة لَحْنَ الْعَوْدَةِ الّذِي لَا يَبْرَحُ تَفْكِيرَنَا، وَلَا يَنْزَاحُ عَنْ كِيَانِنَا .
يَزْدَادُ حَنِينِي يَوْمًا بَعْدَ يَوْم، وَتَجُوبُ خَاطِرِي مَوْجَاتٌ عَاصِفَةٌ غَاضِبَةٌ ،تَشْهَدُ عَلَى مَا أَلَمّ بِي وَأَنْتِ بَعِيدَة ،يَفْصِلُ بَيْنَنَا ذَلِكَ الْهَرَمُ الْجَاثِمُ الْعَالِي ،وَلَكِنْ لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى الْحَرَكَةِ إِلّا فِي رَغْبَتِي الشّدِيدَةِ الْحَبِيسَةِ ذَلِكَ النّورِ البَهِيّ، الّذِي يُحِيطُ بِكِ ،
وَ بِجَنَباتك ،يُذَكّرُنِي بِزَمَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَيَزْرَعُ فِي قَلْبِي رَغْبَةً فِي أَنْ أُقَبّل الثّرَى الذي أَيْنَعْتُ فِيهِ فَسِيلَة وَجَدَتْ فِيكِ المَاءَ وَالغِذَاءَ وَالهَوَاءَ فَرَبَتْ وَتَرَعْرَعَتْ ،فَأَسْتَنِيُر بِبَهْجَتِكِ وَأَنَا أَهِيمُ بِفِكْرِي وَأَرْثِي حَالِي الآنِي ،فَيَشُدُّنِي حَنِينِي إِلَى حِضْنِكِ الدّافِئِ الّذِي أَوَانِي فِي صِبَاي ،وَسَاءَ حَالِي اليَوْمَ وَ قَضّ مَضْجَعِي الْبَرْدِ ،وَلَمْ تَرْحَمْنِي وَحْشَة ُلَيَالِي الشِّتَاءِ الطِّوَال .
طَأْطَأْتُ رَأْسِي، وَمَرَّتْ أَمَامَ عَيْنَيْ سَحَابَة مُثْقَلَةٌ بِالْمُؤَامَرَاتِ الْمَاكِرَةِ ،وَالأسَاطِيرِ المَزْعُومَة ،فَكَانَ الدَّمَارُ وَالتَّشَتُّتُ وَالضَّيَاعُ ، ،فَبِتْنَا هَكَذَا وَسَطَ القِفَارِ بَعْدَمَا نَأَى الْجَمَالُ عَنَّا ، وَهَا أَنَا اليَوْمَ عَلَى ذِكْرَاكِ، أَحِنّ إِلَيْكِ وَتَتُوقِينَ لِلُقْيَايَ ،وَتُمَزّقُنَا مَخَالِبُ الغُرْبَةِ،فصِرْتُ في أَيّامِ مُشَرَّدًا تَلْفُظُنِي أَمْوَاجُ البِحَارِ، وَعَرَاقِيلُ مَعَابِرِ الأَوْطَانِ وَأَنَا أَحُومُ حَوْلَكِ ،وَحَوْلَ حِمَاكِ ،يَا مَلَاذِي وَيَا مَأْوَايَ .
كُنْتِ وَسَتَبْقَيْنَ حُبِّي وَسَكَنِي ،صِرْتُ أَعْرِفُ أَنْ لَا حِرَاكَ مِمّن تَوَلَّوا أَمْرِي فِي مَتَاهَاتِ السَّلَامِ المَزْعُوم الّذي لَفَّهُ الزَّيْفُ ، فَانْفَرَدْتُ أَعْزِفُ لَحْنَ الْخُلُودِ وَأَرْثِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ الّتِي اعْتَرَاهَا الْعَبَثُ ،أَقْبَعُ فِي زَاوِيَة مِنْ غُرْفَة مُظْلِمَة ،أَنْظُرُ مِنْ ثُقْب صَغِير،مِنْ ذَلِكَ الْجِدَارِ الْعَالِي، إِلَى الضِّفَّةِ الّتي انْتَصَبْتِ فَوْقَهَا.
تَذَكّرْتُ رِسَالَةً مِنْ النَّبِيِّ سُلَيْمَانَ الحَكِيمَ، فَعَمّتْنِي قُشَعْرِيرَة ٌ، وَسَادَ الصَّمْتُ المَكَانَ، وَعَمَّ الْهُدُوءُ، وَاطْمَأَنّتْ نَفْسِي بِذكْرِ مَا اسْتُهِلَّتْ بِهِ الرِّسَالَةُ :"إِنّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ " فَصِحْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي :إِنّهَا أَرْضُنَا !!
إِنَّهَا أَرْضُنَا !! فَتَجَدّدَ أَمَلِي فِي العَوْدَةِ وَلِقَاءِ الْحَبِيبَةِ.