عاطف!
دخلَ غرفةَ والدتِهِ في المستشفى، وجدَ الممرِّضَ يعالجُ أُنبوباً بلاستيكياً يُدخلُهُ في فمِها عبرَ الحلقِ ليساعدَ على تنفُّسِها ..قال للممرِّضِ: دعْ عنكَ ولا تُتعبْ نفسكَ..أمّي لم تنمْ منذُ سنتينِ..وهيَ الآنَ بحاجةٍ إلى نومٍ عميقٍ..
المستشارُ عاطفُ، الذي وافت المنيةُ أمَّهُ قبلَ أربعةِ أيامٍ، لبسَ بذلتَهُ واستعدَّ للنزولِ إلى عملهِ بعد انقضاءِ ثلاثةِ أيامِ العزاءِ. كان أسبوعاً حافلاً مليئاً بالحزنِ؛ كانَ عليهِ ان يتابعَ المستشفى والطبيبَ والتكاليفَ، فانقطع عاطف فيها عن قضاياهُ التّي كانَ يجبُ أن تنظرَها المحكمةُ في مواعيدِها. واعتادَ أن يصعدَ إلى غرفةِ أمّهِ ليقبِّلَ يدَها، لكن بابَ الغرفةِ هذا الصباحُ كان مُغلقاً. أحسَّ أن قدميهِ ثقُلتا أن تحملاهُ للخروجِ، وإنما حملتاهُ عنوةً للصعودِ، فصعِدَ مُنقاداً ليسَ له خيارٌ. وصلَ البابَ..فتحَهُ..وجدَ سريرَها خالياً وفراشَها مُرتّبا...كيفَ يكونُ ذلكَ وقدْ رآها أمسِ في منامهِ، واحتسى معها القهوةَ، وتضاحكا كثيراً عندما قال لها: ابني محمَّدُ يقولُ: يا والدي عندما أنهي دراستيَ الثانويةَ سأدرسُ الطبَّ حتّى أعالجَ جدَّتي وجدِّيَ إذا مرضا، قلتُ لهُ جادّاً: وأنا يا ابنَ الكلبِ...فأحسَّ الحرجَ الشَّديدَ وقالَ: طبعاً يا والدي، لأنّكَ ستعيشُ أكثرَ من جدَّتي وبعدَها سأتفرَّغُ لكَ...قاطعتهُ أُمُّهُ: اللهَ.. اللهَ!.. وأنا منسيَّةٌ من حساباتِك أيُّها النِّطاسيُّ الكبيرُ!..فازدادَ حرجُهُ، واحمرَّ وجهُهُ، وانفجر غاضباً: يبدو لي كعادتِكُما، تتدبَّرانِ المكرَ بي بينَكُما ، وخرجَ ...فانفجرنا ضاحكينِ...ضحكتْ أمُّ عاطفٍ وقالتْ: لا أظُنُّني سأعيشُ حتّى أرى محمّداً طبيباً..إذن أمّي لم تمتْ، فكيفَ يقولُ النّاس ان أمِّيَ ماتت، فها أنا أحتسي معَها الآن القهوةَ...
أُغميَ على والدي فنقلناهُ إلى المستشفى، وهناكَ وُضعَ تحتَ العنايةِ الحثيثةِ، حيثُ ذهبَ في غيبوبةٍ استمرَّت يومينِ صحا من بعدِها، فطلبَ ملابسَهُ، وسألَ عن ابنِه الكبيرِ عاطفٍ، قالوا لهُ: إنَّهُ الآنَ في الطَّريقِ إلى المشفى..وما أن دخلَ عاطفُ، ووجدَ أباهُ جالساً على السَّريرِ، حتى بادرَهُ مداعباً: أين طقمُ الأسنانِ يا ابنَ الكلبِ؟!..هل جلبتَهُ معكَ..إذ إنّني جائعٌ جداً ...قالَ عاطفُ: حمداً للهِ على سلامتكَ ياوالدي! اتّصلَ بي الطبيبُ وطمأَنني..هاكَ طقمُ الأسنانِ...سآتيكَ الآنَ بالطَّعامِ من المطعمِ المجاورِ..
قابلني الطّبيبُ عندَ خروجيَ مسروراً لشراءِ الطَّعامِ، قال الطبيبُ: إنَّ أمامَهُ بضعَ ساعاتٍ، وإنَّ هذِهِ ليستْ إلاّ صحوةَ ما قبلَ الموتِ ..فوطِّدْ نفسكَ، ولا تَتفاجأْ...فاجأني الطَّبيبُ بكلامهِ...فبرَدَ العرقُ على وجهيَ ونزلتُ مُتثاقلاً إلى المطعمِ وعُدْتُ إلى والدي ومعيَ الطّعامُ والفرحُ المصطنعُ، فحمَّلني مالا أُطيقُ بينَ إحساسيَ الباطنِ وإحساسيَ الظّاهرِ..وأكلَ والدي الطَّعامَ بشهيةٍ...وفي المساءِ اتَّصلتُ بجمعيةِ دفنِ الموتى، وحجزتُ قبراً في المقبرةِ...وفي صباح اليومِ التّالي توجّهَ موكبُ السيّاراتِ من الأقاربِ والأصدقاءِ إلى المستشفى..ليواكبوا تجهيزَ الجنازةِ إلى المسجدِ ليصلّوا على الْمُتوفّى بعدَ صلاةِ الظُّهرِ.
قالتْ أمُّ عاطفٍ لولدِها: ألا نذهبُ إلى المعصرةِ لشراء الزَّيتِ..فقدْ أمطرتْ السَّماءُ، والزَّيتونُ تشرّبَ الغيثَ؟ قال ولدُها: ألا يحسنُ بنا أن نشتريَ الزّيتَ من هنا؟! قالتْ لَهُ: يا بنيّ لا أطمئنُّ إلاّ لزيتِ المعصرةِ، أراهُ يشغبُ صافياً من الزَّيتِ المهروسِ بينَ حجرَيِّ الرَّحى، فضلاً أنَّ الزَّيتَ هنا قدْ يكونُ قديماً أو مخلوطاً!..وكان في نفسهِ يقولُ: لم أكنْ أحبُّ أنْ أخالفَها في طلبٍ حتى لَو لمْ أكن بهِ مُقتنعاً، ذلكَ أنَّ قلبَها كانَ ضعيفاً، لالتواءٍ خَلْقِيٍّ في شريانٍ في عضلةِ القلبِ مما يضعفُ ترويةَ الدَّمِ لباقي الجسمِ...وكانَ أبي يتندَّرُ بالقولِ عندما أخالفُ رأيَهُ إلى رأيِها:...دائماً أقولُ: أنتَ ابنُ أُمِّكَ..فيخرجُ عن طورِه إذا قلتُ:..ولمَ لا أكونُ..أوَ لستَ أنتَ ابنَ أُمِّكَ...قائلاً متفاخراً: بل أنا ابنُ أبي؟
كنتُ بئرَ أسرارِها، طلبتْ إليّّ ألا أُعلمَ أبي وإخوتي وأخواتي بما قال الطَّبيبُ حولَ قلبِها..وقالَتْ يوماً: أنتَ الكبيرُ، ولقد تحمَّلتَ معيَ الكثيرَ، فإذا حانتْ منيّتي فلا تضعفْ، ولا تصخبْ، وكنْ لأبيكَ وأخواتِكَ وإخوانِكَ خيرَ مُعزٍّ ومُواسٍ ..واعلمْ أنَّ عزاءَ المرأةِ في أهلِها، فلا تنسَ أخوالَكَ منْ مشورةٍ ونُصحٍ..ولمّا لم تذقْ طعمَ النومِ لسنتينِ، وإذْ دخلتْ في غيبوبةِ ما قبلَ الموتِ، حتّى إذا كانتْ في العنايةِ المركَّزةِ...جلسنا حولَها نُكلِّمُها فلا تردُّ صرفاً ولا قولاً..وبينا كلُّنا وجومٌ دخلَ محمّدُ...قلتُ: يا والدتي هذا محمَّدُ جاءَ ليطمئنَ عليكِ..وما أن وقفَ جوارَها وقال: جدّتي!...حتّى جلستْ، فعانقتهُ مغمضةَ العينينِ، ثمَّ عادتْ فتمددتْ في سريرِها..
صعِدتُ إلى غرفةِ أبي في المستشفى، لم يكن هُناكَ، فخفقَ قلبيَ في صدريَ، ونفرتْ دمعتانِ من عينيَّ وعدتُ إلى ممراتِ المستشفى.. سألتُ عن غرفةِ ثلاّجةِ الموتى، سألتُ القائمَ على الثلاّجةِ ..هل بينَ الموتى في الثّلاجةِ أبي؟..قام الرَّجلُ من فورِه وجعل يسحبُ جواريرَ ثلاجةِ الموتى واحداً تلوَ الآخرَ..وإذ لم يكن أبي بينَ الموتى .إذن ..فأينَ أبي؟
حتى إذا استدرتُ ...وعدتُ أدراجيَ داخلَ المستشفى، رآني الطبيبُ فأقبلَ عليّ يقولُ:..ماذا أقولُ إذا حصلتْ معجزةٌ؟..إذْ إنَّه من الحالاتِ النّادرةِ جداً جداً..أن يتخطّى الموتُ أباكَ..فحمداً للهِ على سلامتهِ...سألتُ الطبيبَ: وأينَ هوَ الآنَ؟..قالَ الطّبيبُ: إنّهُ الآنَ..جالسٌ على السَّطحِ أو يتمشّى، يستمتعُ بالهواءِ العليلِ ودفءِ الشَّمسِ!
تابعَهُ أبوهُ وهو جالسٌ في مجلسِ البيتِ،وعاطفُ يصعدُ إلى غرفةِ أمِّهِ فمشى خلفهُ بخطواتٍ صامتةٍ. حتّى إذا دخلَ الغرفةَ وردَّ البابَ خلفهُ. وقفَ أبوهُ بالبابِ على نشيجٍ ونحيبٍ مُتصلٍ..قال أبوهُ: يا ألله..أيبكي الآنَ!.. وقدْ هالني جَلَدُهُ فلم يذرفْ دمعةً واحدةً على أمِّهِ، محلَّ استغرابِ الجميعِ، خلالَ أيّامِ العزاءِ الثلاثةِ. حتّى همسَ البعضُ: ما أقسى قلبَ هذا الولدِ..! فإذا هوَ الآنَ بركانٌ ينفجرُ!