لبسوا القهر .. كوفية
كتعويذة يتأرجح صوتها على جيد طمأنينة مزيفة .. أنهى اتصاله .. وكان صوتها الواهن .. آخر ما توضأت به روحه .
وقف حيث اجتمع بضع رجال ونساء .. وكلمات الغضب والاستياء تتقاذف فيما بينهم .. وعليه تلقف كرة حنقهم .. فالأعين صُوّبت نحوه كونه استطاع الاتصال بعائلته داخل المخيم الذي اقتحمه مسلحون منذ ستة أشهر .. أخبرهم بما قالته له زوجته .. وكم كان زهيداً ما عرفه منها .
اتكأ بجسده المنهك على حائط منزل .. امتلأ بآثار رصاص يُظهر حجم ما كان يحدث هنا .. في مخيم اليرموك .. تاهت نظراته بين سيارات إسعاف تابعة للهلال الأحمر وسيارات وكالة الغوث .. التي تنتظر بدء عملية إدخال المساعدات وإخراج الحالات الإنسانية ..
ما أطول الدقائق التي تفصل لحظات احتضانه لابنه الذي ولد بعيداً عنه .. ولا يملك من تلك السعادة سوى أنه أسماه عبر الهاتف باسم والده الذي أبى الخروج من المخيم حين قال له : " .. يكفيني لجوءاً .. اكتويت به ستون عاماً .. أتريد مني اللجوء ثانية بنيّ .. لا أرى أمامي سوى حيفا .. حيفا فقط " .. وها قد التهم مرض السكر أطرافه .. ليُشيع جثمان والده دون أن يودعه .
انهال الرصاص من رشاشات اختبأت خلف النوافذ .. على فضاء الانتظار .. وهلعٌ أصاب الجميع .. فمنهم من اختبأ خلف السيارات المكتظ بها المكان .. ومنهم .. لهول غدر لم يتوقعوه .. بقوا واقفين .. ولسان حالهم يقول .. " ألن تنتهي المأساة .. ؟ " .
ملأ الضجيج تلك الوجوه المترقّبة لنتيجة ما حدث .. فلقد كانت آمالهم كحمائم ترفرف أمام الثغور المخضّبة بشوق اللقاء .. والحرقة أكلت أفئدة تاقت لاحتضان من بقى من أحبتهم في المخيم .. ولم يستطع الخروج ..
أراد الصراخ بأعلى صوته .. فعائلته لا تبعد عنه سوى شارع .. ولا يمكنه الخطو نحوهم .. ولا هم بقادرين .. ليته لم يخرج من المخيم يومها ويذهب لعمله .
******
تكورت صغيرتها ذات الأربع سنوات بجوارها .. ورضيعها ذو الأربعة أشهر في حضنها .. يحتال على ثديها علّه يعطيه المزيد .
مسدّت بيدها شعر ابنتها .. وبنبرة هادئة قالت : " آية .. سنخرج من هنا .. سنخرج .. ونجتمع مع والدك مرة أخرى " ، رفعت عينيها إلى وجه والدتها .. ابتسمت .. أرادت أن تحدثها عن ما قاله لها والدها .. وما وعدها به .. لكنها متعبة .. متعبة جداً .. وجائعة .
تشظّى صمت الغرفة بصوت صراخ وعويل .. أصاب القلق قلبها .. وضعت ابنها بجوار أخته ونهضت مسرعة حيث النافذة .. ضاق صدرها عندما رأت نعشاً يحمله بضع رجال خرجوا من منزل أحد الجيران .. هربت من أمام النافذة مخافة أن تعتاد عينيها منظر الموت .. جلست بجوار ابنتها والتي نامت أخيراً .. فربما ينسيها النوم جوعها .. فلقد تحول طعامهم من رغيف خبز يابس مبلل بقليل من الماء .. إلى بضعة أعشاب تقتنصها يديها .. لحظة عتم .. من أمام منزلها .. لترميها في إبريق من الماء المغلي ليكون قوتهم .. كي يبقوا على قيد الحياة .
رمت بغطاء على جسد آية النائمة .. تذكرت صغيرها .. والذي نسيته لحظة هلع .. جلست بجواره .. لامست بإصبعها خده .. ذُهلت لبرودة وجهه وهو الراقد بجوار المدفأة .. حرّكته .. فكّت القماط الذي لفّ جسده .. وكان أشبه بدمية تتلقفها يد طفلة عابثة .
مزّق صوتها براءة المكان .. احتضنته .. أخرجت ثديها .. حاولت إرضاعه عنّوةً .. علّه يشتّم رائحة الأرض الذي منها نبت .. فيزهر من جديد .. لكنه التحف الجوع وغادر .. عالمهم .. ملاكاً .
تململ جسد آية من تحت غطاءها .. خافت أن تتعرف صغيرتها على الموت الذي بات قريباً منها .. خبّأت رضيعها في حضنها وقد غطته .. وأخذت دموعها تغني له كي ينام .. " يالله تنام .. يالله تنام .. لدبحلك طير الحمام .. روح يا حمام لا تصدق .. بضحك عالغالي تينام .. يالله تنام .. يالله تنام .. "