نشوة الصحو
على مشجب حب ظنّه بداخلي , علّق غروره ومضى .. سابقني غضبي حيث استكانت بضع أطباق خزفية تنتظر مني تجفيفها ؛ لكن الكسر كان من نصيبها .
وهنا .. حيث بقايا الحطام تئن وجعاً تحت قدميّ ، كانت شظايا الحزن التي أدمتني ، قد أُزيلت بتأوهات طبق ينكسر .
هدأت ثورة الغضب بداخلي ، وبدأ التساؤل ينسج شباكه في زاوية الفضول ، علّها تصطاد إجابة تسدّ رمقه .
- إلى أين ذهب ؟ .. وما الذي يفعله الآن ؟ .. فموعد فتحه للمحل لم يحن بعد .. أيكون عند أخيه الأكبر ؟
لا أدري كيف ساقتني قدماي حيث منزل أخاه ، حتى أنني لم أفكر لحظة فوضى مشاعري , أن أتصل بهم أولاً ؛ لأسألهم عنه .
وصل ضجيجي حيث مبتغاي , دققت الباب لتأخذني زوجة أخيه بين أحضانها وكأنها لم ترني منذ زمن ، لحميمية استقبالها نكهة اشتقت تذوّقها ، نكهة من يهتم لأمرك .
وعن عمد أردت ارتشاف المزيد من الحب ، فاتصلت به لأبلغه أننا بانتظاره على الغذاء ، فزرع الحجج على أرض انتظاري لأحصد خيبة عدم مجيئه ، لكني اتكأت على قراري بأنني باقية هنا .. فلقد اشتقت الرفقة .
أبلغتها بأنه لن يأتي فهو بانتظار بضاعة لمحله ، فأجابت باسمة وهي تتذوق ما تعدّه للغذاء :
- وإن يكن .. فأنت بيننا وسيفرح الأولاد بوجودك .. ساعة لا أكثر وسيرجع سلفك من العمل .
جمعتنا المائدة ، والفرحة ملأت الوجوه أمامي ، حتى التعب الذي لاك بأنيابه تضاريس وجه أخ زوجي اختفت حفاوة بوجودي معهم الآن ، وكغبار نُفض على بساط نظيف أتى صوت سلفي كاسراً مرايا اللياقة ، ناهراً زوجته موبخاً إياها بكلام قاسٍ ، كل هذا لأن براعم التذوق في لسانه لم تلتقط طعم الملح في الطعام ، لأجل ذرّة ملح ؛ أهينت أمامي وأمام أولادها ، لم يصدمني تصرفه ؛ فجفاؤه نحو زوجته كل العائلة تعرفه ، واستكانة كرامتها أيضاً أمر نعيبه فيها ، لكن الجديد هنا .. هو تصرف ابنها البكر ، فلقد رمى الملعقة رافضاً إكمال طعامه ، وكأنه يريد أن يقول لأبيه .. أنا شبلك يا أبي .
وللأمانة فلقد تذوقت طعاماً لذيذاً لم يكن ينقصه شيء ، سوى مظلة حبّ تقيهم قيظ الجفاء .
هرولت حال خروجي من منزلهم ، حيث الحياة مرة أخرى ، وكأنني كنت في مأتم ، ودّعت فيه كرامة امرأة ورجولة رجل .
وتحوّل غضبي الذي كان على زوجي إلى بضع شوق إليه ، فقررت أن أفاجئ خلوته مني وأذهب إليه ، فهو لا يبعد كثيراً عن هنا .
وصلت الشارع الذي فيه المحل ، وعلى بعد أمتار رأيت أخيه الأصغر وزوجته وطفلتيهما يخرجون من محله ، متجهين نحوي دون أن يلحظوني بعد .
ومع اقترابنا على ذات الرصيف وبضع خطوات تفصلنا ، رآني آخاه فابتسم بملء الودّ ، وابتسمت لهم جميعاً . أسرع خطوه نحوي ساحباً طفلتيه وراءه ، وإذ بها تتأبط ذراعه بانفعال ليقطعا الشارع فجأة معتقدة أنني لم أرهم ، واتجهوا نحو وجهة لم تكن مقصدهم قبل هنيهة ، رأيته يبتعد مطأطئ الرأس بجوارها ، وطفلتاهما تنظران خلفهما .. إلىّ .
كل ّ ما عايشته من ألم منذ الصباح حتى اللحظة ، أثار موجاً يعاند شواطئ الحدق ، ووجدت أنني خرجت من مأتم لأدخل آخر ، ودّعت فيه هذه المرة ، كرامة رجل وأنوثة امرأة .
دخلت المحل ، رأيته أمامي خلف طاولة العرض يجلس ، وسيجارة تتأوه دخاناً بين أصابعه ، وبسمته عند رؤيتي ؛ كفراشة رفرفت على رحيق لهفتي ، فانتشى لحلاوتها الدمع العالق بالأهداب .. فانهمر .. لا حزناً .. لا غضباً .. بل حمداً لله .. أنني لم أكن جاريته .. ولا هو كان خاتماً في إصبعي .