.. إلى حين
" صفعتني الرياح واهتزت ألواحي الخشبية المثبتّة بوهن ، بتّ أخاف أن أفقد ما تبقى مني ، فلا أحد يهتم بترميمي " .
شاخصة النظرات ، حيث تلك النافذة المغلقة ، وأنامل الشمس تتسلل لتلامس أطراف سريرها ، وما بعد هذه النافذة وبقايا خشبها الذي بدأ يفقد بعض أوصاله .. كانت جرمانا .
تاقت لرشف بضع نسمات من صباح دمشق .. " يا ليتهم أبقوا تلك النافذة مفتوحة " . لم تفهمها كنتها الكبرى ، عندما أومأت لها بأن تدع برودة هذا الصباح ، ترمم أنفاس هذه الغرفة الملأى بالخدر .
ليس فقط جسدها قد أصابه الشلل – منذ سبعة أشهر – بل كل شيء يحيط بها قد شلّ ، حتى أولادها الثلاث وابنتها غطى الثلج دفء مشاعرهم نحوها ، وبات كل منهم يرمي ثقل .. همها – همهم .. على الآخر ، ليتفق الجميع أن يأوي عجزها بيت كل واحد منهم لشهر ، فزوجات أبناءها لهن ظروفهن الخاصة ؛ فتلك وظيفتها تمنعها أن تأتي كل يوم للاهتمام بها ، وتلك .. وتلك .. كلّ له ألف عذر ، وعذرها الوحيد أنها كانت والدتهم جميعاً .
" هبّت الريح بقوة لتبعدني عن زجاج نافذتي ، وهناك في الأسفل ؛ أراه ينفخ في كفيه محاولاً تدفئتهما ، وبجانبه آلة لصنع القهوة " .
اعتاد هذا المكان وجوده منذ شهرين ، فخلفه تقع الحديقة العامة ، والتي تكتظ كل صباح بالساعين للرشاقة والباحثين عن الحب ، وفي الجهة المقابلة له ترتمي بضع مبان ، بعض قاطنيها يرغبون شرب قهوته قبل ذهابهم لأماكن عملهم .
لم يختر عمله هذا ، بل ذاك – الربيع العربي – فرضه عليه ، ففي غربته سلّم كل حواسه للعمل وجني المال ، فقلبه تركه على عتبة قلب من أحبها ورفضه أهلها .
وفي غمرة ذاك الحراك الشعبي ، كاد يضيع بين .. معنا أو ضدنا .. فآثر الرجوع إلى وطنه ، تاركاً وراءه كل ما يملك ، ليقع فريسة فقر ظنه مؤقتاً ؛ لاعتقاده بأن ما يحصل آنذاك زوبعة في فنجان وتنتهي ، لكنها كبرت لإعصار طال حتى وطنه .
" زادت قوة الرياح لتصفعني مرة أخرى وتدخلني حيث زجاج نافذتي ، لأراها هناك ، وقد إلتمع خدها بأخدود رقيق ، أظنه كان .. دمعاً " .
ما أصعب أن تعجز عن القيام بأمر ، كل من حولك يقوم به حتى الطفل الصغير ، هي مشيئة الله – لا تنكر هذا – لكن ما ينكره قلبها ، أن لا ترى أبناءها وأحفادها مجتمعين حولها ، بل كل شهر يكون شللها ضيف بيت وحياة أحدهم ، وما ينكره عقلها ، أن تكون كرضيع تتلقفه أيدي كناتها الثلاثة للاهتمام بنظافتها الشخصية ، آه .. كم أحتاجك يا ابنتي .. لم غلبت سلبيتك عاطفتك نحوي .
التفتت بملل إلى النافذة التي سلبت آخر شغف لها بالحياة ، وكأن العالم كله يبدأ وينتهي ، حيث ذاك المربع المضاء بالنور .. والضجيج .
تناهى إلى سمعها صوته .. صوت زوجها ، ارتبك وعيها ، فالموت أستلّ نبضه من غمد الحياة قبل إحدى عشر سنة ، وتساءل لاوعيها .. لو لم تتزوجه حينها وتزوجت من أحبته ورفضه أهلها ، أكانت الآن ممدة في الفراش ، تتوق ليد تمسح جبينها .. ولا تجدها ؟ أجهشت بالبكاء .. ليس على سرير احتضنها بقوة داخل أحشاءه ، بل على صوت حنون – فقط – يناديها باسمها الأول " .. يا رسمية " .
" وبين ضجيج الباعة والعابرين لهذا الشارع ، اهتزت أوصالي ليتساقط ما تبقى مني على الرصيف ، وبقايا متناثرة من زجاج نافذتي تلتمع بجواري ، وعشرات الخطوات الهلعة تدوسني ، وصرخات .. ودخان .. وأناس يتساءلون بقلق : .. أين حدث التفجير .. أين حدث ؟ "
وهنا في الأسفل ، كان جالساً على الرصيف ، والدهشة تعصف بما تبقى له من وعي . وهناك في الأعلى ، كانت باسمة .. " فزجاج النافذة قد تحطم " .
وبين .. هنا وهناك .. رائحة البارود خبئت عبير ياسمين دمشق .. إلى حين .