التحرك السياسى أقل من مستوى النضال فى المعارك ، ليس فى مصر أو فى فلسطين فقط بل فى اندونيسيا التى اشتكى لى بعض الشباب الاسلامى هناك من استيلاء العلمانيين على ثمرة تضحياتهم فى طرد المستعمر ، وصاروا هم المتصدرين للمشهد ، فقلت لهم أتمنى ألا أسمع هذه الشكوى من جديد حيث صارت عاملاً مشتركاً بين الاسلاميين من أقصى الأرض الى أقصاها ، ومتى أسمع شكوى العلمانيين من دهاء الاسلاميين السياسى وبراعتهم الدبلوماسية التى تتيح لهم توظيف تضحياتهم لتكون لهم الكلمة العليا ويمتلكوا المنابر الاعلامية والثقافية والنفوذ السياسى الذى يمكنهم من نشر تصوراتهم والدفاع عن مكتسباتهم .
نقدر التضحيات الكبيرة ونتضامن مع الشهداء فى النضال ضد المستعمرين ومواجهة المحتل ، لكن لا نستطيع ابداء التعاطف مع الفشل السياسى والتحالفات الهشة التى تطيح وتعصف بالمنجزات فى ميادين البذل .
الأمر مختلف تماماً ويتفاوت الوضع من بلد الى بلد ومن شخص الى شخص ومن مجتمع الى مجتمع ، وما يحدث فى العراق ليس من المنطقى سحبه على اندونيسيا ، واذا كان البعض يتساءل عن داعش والقاعدة ، فأنا أتساءل عن الرشد والراشدية ، واذا زعموا أن تلك خلافة فهل هى راشدة ؟ وقد اشترط الرسول صفة الرشد حتى فى الحديث عن الخلفاء من الصحابة " الراشدين المهديين " ، فلا نسوى بين عثمان وكاتبه ولا بين عمار وقاتله ، فما ظنك بمن يدعى الخلافة اليوم ، وهل ما يقومون به يمس الرشد والمنطق ويقود الى مصلحة الأمة ؟
بل فى المجتمع الاندونيسى تطبيق راشد للدين بشموله بفهم أرقى وأعمق من تلك التنظيمات التى تظن أنها ببعض المظاهر قد أقامت الخلافة ، وهناك من الرموز الاسلامية من قابلتها فى اندونيسيا من هو أقرب لصفة الرشد والرشادة ، أكثر من أى داعشى أو قاعدى ، فكيف تحكمون ؟
الاستقلالية والذاتية ومراعاة ظروف وأحوال البيئة والمجتمع الذى تعيش فيه ، هذا سر نجاح الحركة الاسلامية ، وتمحى الملامح ويصير غريباً منفراً من يسير وراء اختيارات بعيدة وتجارب لها خصوصيات تمت فى بيئات ومجتمعات أخرى ، وليس هناك أحد معصوم ولا يحرص على مصلحة الجماعة الا أبناؤها وجميع التيارات والفصائل تبحث عن مصالحها بالمواءمة والتوفيق بين القيام برسالتها والحفاظ على ذاتها وحضورها ومقدراتها بحسب الواقع والظروف المحيطة بها .
التنظيمات السرية تخنق الكفاءات وتقصى الخبرات والمؤهلين للقيادة من حيث الفكر والخلق والعلم ومؤهلات القيادة الذاتية لأن الاختيار بها لا يتم فى العلن عبر آليات منضطبة واضحة شفافة واختيار حر يصعد من خلاله ذوو الأهلية والمكانة العلمية والفكرية والخلقية ، انما تشترك التنظيمات السرية والأنظمة الاستبدادية فى الديكتاتورية والجبرية وتصعيد وتمكين من لا يستحق مدى الحياة ، ولذلك تجنح كثير من قيادات هذه التنظيمات لرفض الديمقراطية والتداول لأنه يهدد سلطتها ونفوذها وامتيازاتها ، ولا يدرى أحد ماذا يدور فى الدهاليز والمخابئ وأى أفكار يعتنقون وبأى رموز تاريخية يتشبهون ، لذلك أكدت للشباب الاندونيسى أن أقل واحد فيهم بالاختيار الحر الشفاف ومن خلال عمل معلن مشروع – دعوى أو خيرى أو سياسى – أفضل وأكفأ ملايين المرات من أبو بكر البغدادى الذى يزعم أنه الخليفة ، وقد يفقد البعض عقله هنا فيبايعه ويصير واحداً من رعاياه يأتمر بأمره وينفذ تعليماته وينبهر بطلته الوهمية ولحيته الطويلة وثيابه السوداء فيصبحان فى الجناية على الشريعة والاضرار بمصلحة الأمة والبعد عن الرشد والراشدية سواء .
وأين الرشد فى ممارساتهم على الأرض التى تدل على انحراف كبير فى الفكر وخلل نفسى وجهل فاضح بالدين ومفاهيمه وأصوله فضلاً عن السطحية الشديدة فى التعامل مع الواقع السياسى وتحدياته بحيث تصب كل تحركاتهم ومواقفهم فى صالح أعداء الأمة الاسلامية وترضى نهم الصهاينة والغرب فى تفتيت البلاد الاسلامية واشعال الفتن والحروب الطائفية والمذهبية بداخلها .
دعاة اشتهروا بالأولياء التسعة ، هم من نشروا الاسلام فى اندونيسيا بالأسلوب السهل الممتنع ، فقد استخدموا التراث الفنى والموسيقى والغنائى البوذى وقاموا بأسلمته ، أى أنهم قاموا بتركيب القيم الاسلامية والمفاهيم والمبادئ الاسلامية على ذلك التراث المتجذر فى البيئة والذهنية الاندونيسية حتى لا يجد الوافد الجديد صعوبات فى الانتشار أو ما يحول بين الناس وبين الاقبال عليه ، بأن يشعروا بالغربة حياله .
وثبت نجاح هذا المنهج المتفرد فى الدعوة ، حيث أثمرت هذه الجهود الابداعية فى الدعوة أكبر بلد اسلامى من حيث عدد السكان وهو اندونيسيا .
الاسلام لم ينتشر بالعنف ولا بالسلاح ، ولن ينتشر بالتفجير والغلظة والتكفير والجلد والرجم وطرد وتهجير المخالفين فى العقيدة ، انما باللين والمرونة والاعتماد على عوامل الجذب الجماهيرى وتحبيب الناس فى الاسلام ، لا تنفيرهم منه .
قلت لهم فى اندونيسيا : الخلافة ها هنا وفى هذا الخير الاسلامى العميم والفهم " الراشد " للاسلام ، وليس لدى داعش أو أبو بكر البغدادى .