فوق بساط ذلك المكان ،جلس ويده اليمنى تداعب شعيرات رأسه ، كان كهلا باغتته أيام الخريف فنزعت من حياته شعاع البهجة.
كان المكان غاصا بالذكرى ،منازعا لتلك الأصوات المتضائلة ،حين أرادت أن تنال من ذلك الصمت الذي وشح المكان بذلك الوشاح الفطري المهيب ،لقد كان يطل برأسه من بين تلك الأعشاب، فيبدو ككومة صوف منفوش .
هو ذاك المكان الذي امتزجت بذرات هوائه نسمات الهوى، الذي ضاع بين تألق تغاريد الطيور، و زقزقات صغارها ، كانت حركات شملت أرجاء ذلك العش الضيق ،فعانق الناظر إليها تلك الأهداب الشعاعية المتناثرة من خيوط أشعة الشمس الذهبية ،فاعتادت مداعبة تلك الأمكنة التي تمتثل لشحوب المنظر ، فيغرق المكان كله في صمت عميق اعتلته صفرة الخريف .
كان الرجل قد اختفى بين تلك الألوان ، تذكر تلك الأيام التي كانا يقصدان فيها المكان ،لقد كان صمتا بدلالات لا تنتهي متاهاتها المحيرة ،فتزهو الذكرى منتشية في ذلك الحيز الذي تناثرت فيه أحلامهما ،كانا ككيان واحد ضم شخصين اجتمعا على الجمال، فارتويا من قطرات نبع ذلك الحب ،فلم يكن الزمان قد خلق في أحدهما شيئا ،إلا وكان له شبيه في الآخر ،لاحت له في سماء المكان عناوين تجلت حينا من الوقت ثم غابت،وأخرى لاحت له من بعيد وأعلنت أنها آتية حين يقبل الخريف قبل الأوان ،قطف بعض الأزهار التي كانت تتراقص حوله ، ثم قال: هكذا كُنّا نقطف أزهار تلك الأيام واحدة واحدة ، ثم حلّ الخريف، وها أنا ذا وكل الفصول قد مرت إلا هو ،لأجدني وحدي ، ها هو ذا يعبث بما بقي من جمال ليلقي به في مسارات الذكرى ،ويعزف على أوتار الحياة أغنية "ناهاواندية "تؤثث لرقصة الوداع المتجلية في تلك الأنحاء.
كان يشير براحة يده ،فتراها تتحرك وكأنها يد طفل صغير حين تطلب منه أمه أن يقول "باي، باي" وهي فرحة ببداية العلامات الدالة على النمو والنضج ،بتلك الحركة البريئة ،كان يخالها طفلا ببراءة أغدقت في عالم النقاء والصفاء والسمو ،كانت شيئا متفردا ماتعا في كل ما لها ،ثم تذكر قولها في إحدى الأيام حين قالت : هل يخيل إليك أننا سنفترق يوما ما ؟ فكان غالبا ما يجيب بالنفي وفي قرارة نفسه، شيء من خوف لا يغادر تفكيره ،كانت الأيام تمر مرّ السحاب وهما على ذات الحال، بين تلك الروابي ،وبين أفياء تلك الأمكنة الخالدة التي اختلطت فيها معالم الحسن ، فتجلت في جمال طبيعة برونق حوى سماءهما وأرضهما، وهما مستلقيان كعادتهما معا على ذلك البساط الأخضر الناعم ، لكن سرعان ما جاء الخريف، وا سوس غصن أحدهما فنحى إلى تلك الزاوية، ثم رحل .
بقي الآخر بين تقلبات الخريف، ينتظر سقوط ورقته من ذلك المنتهى، ليخلد بين أحضان حبيبته التي تناثر طيفها في رحابة ذلك المكان ، كان ذلك الفيء جنة له في هذا العالم الصغير ، وبين دوام الحال، رحل بدوره إلى تلك الضفة أملا في لقاء أزلي،رافضا عالما ضم بين فصوله شبح الخريف الذي يعلن النهاية .