تجشّأ الضجيج، فاحتوى كلّ تلابيب الصّمت والهدوء. لم أعد أطيق هرطقاته ومن يشاركونه تخمتها. غشيني التّعب، فهربت إلى إحدى التّلال الخضراء الهادئة.
أسير مستحمّا بصابون الهدوء المعطّر بأطايب شذا الطبيعة، ومغتسلا بحبيبات النّدى التي سالت خيوطا لؤلؤيّة.
نظرت مستمتعا ومتنعّما، واذا بي تشنّف أذنيّ نغمات سحرية، انبثقت من أحد الأماكن.
جذبتني ذبذبات الصّوت صوب مصدره... فتحة واسعة وسط التّلة اليانعة النّديّة.
تراءت لي عن بعد، خيالات أشباح تقيم طقسا احتفاليا، وكأن أتباع "أنانا" لا يزالون مقيمين في المكان، محتفلين بوفرة الأمطار...
تابعت المسير حتى بلغت الخيالات التي أصبحت أمام ناظريّ أجسادا . لم يأبهوا بي، اخترقت صفوفهم دون أن يعترضوني، ووجدتني داخل كهف كَثُرَ حرّاسه. لم يكن كهفا اعتياديا. تسلّلت الأنوار عبر دهاليزه مغرية، وجاذبة القادم إليه باتّباع خيوطها. هالني أنّ كومة من العظام والجماجم قابعة في إحدى الزّوايا، فحضرتني صورة أهل الكهف، وملئت منهم رعبا...
بقيت واجما وازددت هلعا عندما ردّد المكان صدى أصوات بشريّة خلتها أرواح مَن قد رقدوا هنا...
لحظات وساد الصّمت، أغرتني الأضواء التي ازداد وهجها بالتّوغل داخل الكهف. وعجبا ما رأيت... أبوابا موصدة كأنّها بوّابات مدن في باطن الأرض. تجرّأت وفتحت أولاها، وإذا بها تواري خلفها أناسا مختلفي الأعمار والهيئات والأجناس ، فأيقنت أنّ ما سمعته، قد انبثق من هنا. لم يرحّبوا بي. علا زعيقهم ثمّ خفت، وانطفأ... كلّمتهم علّني أجد من يفهمني. ران الصّمت لحظات ثم نطق أحدهم صارخا:
نحن المظلومون على هذه الأرض... نحن الذين ألقى بنا أباطرتها على قارعات الطّرق، وكنّا من المنسيين؛ إلّا ما نقشه حبرهم عنّا زورا، على أوراق ملفّات الكذب التي يختزنونها في أدراجهم المتعفنّة؛ ليخرجوها وقتما يشاؤون، لغايات في أنفسهم...
نحن من هدّمت ديارنا، واقتلعت خيامنا، وشرّدت أحلامنا وحياتنا...
يذبحوننا ويكرمون علينا بفتات موائدهم الجشعة، مُتبعين كرمهم منًّا وأذى. فإذا كنت ممّن ألحقوك بنا، فهاك مكانك...
لم أستطع أن أنبس ببنت شفة. تراجعت ووجهي لا يفارق وجوههم، وخرجت وغمامة مشاعري تشوّش عليّ خطوي...
توسّدت الحائط لدقائق مغمض العينين، والضّجيج يشوّشني . فتحت عينيّ فرأيت قبالتي بوّابة، حثّني الفضول على استرداد قواي والتّوجه نحوها؛ عسى أن يكون خلفها مَن هُم أحسن حالا...
جازفت وفتحت البوّابة، فلم أرَ أحدا... تنفست الصّعداء، وقلت سأجلس هنا لأستريح قليلا من عناء ما صادفت.
فجأة، بدأت زمر الأطفال تتوافد نحوي من سرادقات عدّة، وكأنّي بهم يدعونني للدّخول. خطوت خطوتين لمجالستهم؛ إلّا أنّهم استوقفوني، وأردفتهم نساء تباينت أعمارهن، فوقفت وسط بحر متلاطم من الإشعاعات المنبعثة من عيون لم أدرك كُنهَ نظراتها...
تثاقلت رجلاي وخفت أن أقع أرضا؛ لولا تداركتني إحدى النساء، ودعتني لأفترش التّراب... لم أبادر في الكلام خوفا وإرهاقا، فصاحوا بي هم جميعهم:
نحن ضحاياكم أيّها الرّجال... حروبكم التي تتباهون ببطولاتكم فيها، نحن نتحمل أوزارها... أنتم تحاربون وتقتلون وتُقتلون، ونبقى أيتاما وأرامل، نتلقى شفقة الصّدقة، وصدقة الشّفقة؛ لترطيب جفاف العيش الماديّ والرّوحي الذي نحياه...
لا تقتصر بطولاتكم على حروبكم، بل تتعدّاها لتكونوا أبطال القسوة والظلم؛ لكثرة ما أصبحتم تؤمنون بأبغض الحلال، وتتركوننا وأولادنا، نتأرجح بكراسي القضاة كي ينصفونا... حتّى العاشقين منكم لم ينصفوا العشيقات اللواتي وعدوهن بالزّواج. ولما قضوا منّا أوطارهم، تركونا في مهب عواصف الذلّ والقهر، نعيش متحسّرات، ولدموع النّدم والخيبة والتّوبة ذارفات...
ما ذنب أطفال أصلابكم ليواجهوا صلابة صخرة الحياة دون لينِ حضنٍ أو مأوى؟!... ما ؟!....
لم أعد أسمع ...لسََعت الكلمات جلدي وكادت تحرق كلّ كياني؛ لولا بلسم الصّبر الذي مسحته به؛ كي أستطيع الإفلات من غيلان حنقهم وغضبهم...
بدأت بالزّحف حتّى تمكّنت من الخروج، وعصيّ صراخهم تجلدني، وتزيدني رهقا...
ظللت مادّا رجليّ، غير قادر على النّهوض، وتمنّيت أن أغفو لحظات كي تغسل ذاكرتي هذه الشّوائب التي علقت بها، فأخذتني سنة من النّوم؛ لأستفيق بعدها باحثا عن سبيل للخلاص من هذا المكان... لكنّ طمع فضولي أوصلني إلى بوّابة أخرى، مختلفة الحجم والّلون...
تراقصت أفكاري طربا، بعد وجبات الغمّ التي تذوقتها؛ علّها تفوز بما هو أفضل...
لم أدرِ لمَ وجدتني أستأذن في الدّخول هذه المرّة. انتظرت حتى سمعت من يدعوني للدّخول، انبسطت أسارير وجهي بعد تقطيبها المضني، ودخلت...
بيضُ العمائم وسودُها يتداولون فيما بينهم، ويجلسون في إحدى الزّوايا... ذوو العباءات في هرج ومرج، وكأنّ أمرا عظيما يشغلهم، يلوّحون بعكازاتهم، ويبدون غير راضين عمّا تجود به ألسِنة بعضهم.
ألقيت التّحية، فردّوها بأحسن منها، ودعوني للجلوس. غمرني شعور الاطمئنان؛ كَوْني ضيفا دعيت للإكرام...
أنا من بلاد الضّجيج والضّجّاجين. أبحث عن السّكينة التي بتّ شغفا بإيجادها... فهل لي بالإرشاد والنّصح، من أصحاب العقول النيّرات التي تغطّيها عمائم الوعظ والمعرفة ؟...
ضحك حتى بدت نواجذه، فاشتعلت وجنتاي خجلا، إلّا أنّه حاول إطفاء اللّهيب بكلماته.
لاعليك بني. سأروي لك ظمأ روحك الباحثة عن جرة السّكينة لتكرع ماءها.
ما تبحث عنه لن تستطيع إيجاده تحت عمائم العارفين كما تعتقد، بل داخل رأسك الحاسر!... فتّش عمّا تبحث عنه داخلك، تجده... فإن أنت عشت السّلام الدّاخليّ، والهدوء عقلا وروحا، فقد فزت وتحقّقت رغبتك. أما إذا لم تُصغِ لهواتفك الدّاخلية التي تدعوك إلى المصالحة مع ذاتك وذوات الآخرين، فأنت خاسر!...
أنت جئت هاربا من ضجيج الآخرين، باحثا عن الرّاحة، لكنّ الضجيج الذي تعايشة، ولدتهُ نفسك التي أجهضت صمتها مكرهة، لتلد لك الضّجيج الذي تبغي، وتدّعي أنك تمقته. أنصحك باسترجاع وإحياء ما أُجهض!
اعترتني الدّهشة بعد تخلصي من الخجل الذي كابدت، وسألته عن حاله وعمّن يجالسهم؛ لأنّي وجدت فيه الفيسلوف الذي تربّع على عرش حضارة الذّات ومكنوناتها.
"نحن مجموعة الحكماء، والعلماء، والمتكلّمين، والموحّدين. لقد كنّا الواعظين والمبلّغين، والمرشدين... فسمعتنا الجموع البشريّة مدّعية إعجابها، ومبدية توقها لتحقيق ما يسمع، وبعدها غرست الخناجر في بطون مبادئنا !
قرأنا على مسامعهم شرائع الرّحمن، وعصارات ذهن الحكماء والعلماء وغيرها.. فدوّنوها في مجلدات مزخرفة، عارضين إيّاها جداريّات يعتزّون بها، وصناديق فضيّة يتباهون بمحتواها، وساروا ويسيرون وفق شريعة الغاب!...
زوّدناهم بما يقدّس إنسانيتهم، ويجعلهم أفضل المخلوقات وأجملها كما خصّهم بارئهم، فجعلوا قيمتهم في الحضيض، ومسخوا جسومهم قرودا متطوّرة!... وكانوا فرحين بما أتاهم به الماسخون!... فخلطوا الحابل بالنّابل، ولم يعودوا يعرفون إلى من يلجأون، وما الذي يقدّسون. وها هم تائهون يشتكون، وفيما استحدثوه متخبطون.
لم نعد نحتمل عشوائيّات صنائعهم وما يحلمون، فغادرناهم وليفعلوا ما يريدون... إنّا ها هنا قاعدون، ولحالهم محزونون؛ لأنّنا نريد لمخزون ينابيع المعرفة الحقّ أن ينفجر، ويغمر ماؤه الأرض وما عليها...
عندما يشتدّ حزننا، يولّد غضبا، فينضخ بعضنا بعضا بقطرات المعرفة، فتقوى وتتدفّق سيولا، وتجلب الضّجيج الذي سمعت وقت الوصول..."
جذبني حديثه الذي طال رغم أنّ زفير الآهات زنّرني، ولم أشعر برغبة جارفة في الخروج مثلما شعرت قبلا.
عرض عليّ المكوث. لكنّ توقي لمعرفة ورؤية ما تبقى من أقسام الكهف حملني على الاستفسار، فأخبرني أنّني ضمن حدود البوّابة الثّالثة، وأنّ في الكهف ثماني بوابات. وفيما أنا منصت لكلامه، علا ضجيج المعرفة ثانية ، وانتشرت شظايا الغضب المفعم بالنّظريات والرّوحانيات وغيرها...
لتسقط بعد ذلك العمائم عن الرؤوس الغضبى. فأيقنت أنّ الحكمة تُغضب ذاتها إذا لم تجد من يسمعها، وأنّ الطّمأنينة إذا لم تجد المكان الملائم لتبسط جناحها، فإنّها تتحوّل زعيقا وغضبا !...
اندفعت خارجا والشّعور بالإرهاق يكاد يطرحني أرضا. صادفت في طريقي البوّابات الأخريات، ولم تكن بي رغبة في دخولها... هرولت إلى أن وصلت الفتحة التي منها ولجت، وإذا المحتفلون على حالهم لا يزالون... اخترقت صفوفهم، وولّيت هاربا من الغضب والغاضبين، والتّأنيب والمؤنّبين، لأجد نفسي في غابة الضّجيج والضجّاجين؛ مشفقا وباحثا عن جنين السّكينة في رحم ذاتي ...