( من كتابي قيد الإنجاز : مصائبنا والحل القرآني .. )



25
/
حين حملت مريم عَلَيْهَا السَّلَام بالنبي عيسى عَلَيْه الصلاة والسَّلَام ..
كان الأمر عجيبًا .. والأعجب منه هو تبرير تلك المعجزة أمام الناس الذين تهافتوا عليها يسألونها عن هذا الحمل الخارج عن المألوف والخارج عن سياقات الحياة اليومية للمجتمع .. في تلك اللحظة نطقت مريم عَلَيْهَا السَّلَام بجملة واحدة .. قَالَ الله تَعَالَى إِخْبَارًا عَنها عَلَيْهَا السَّلَام {فَقولِي إِنِّي نذرت للرحمن صوما} وأي صوم يعرفه المجتمع إلا صِيَام الْجَوَارِح ، صِيَام الْبَطن ألا يدخلها طعام ولا شراب .. لكنها من هول الأمر ابتكرت صومًا آخر ألا يدخل ذهنها كلام ولا ملام يستدعي منها الإجابة بكلام آخر يدفع عنها التهمة !
لقد آثرت الصوم صمتا .. { فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}
اليوم ونحن نعيش مقررات مجلس الأمن ودول الاستعمار الجديد يَصُومُونَ عَن الْمَعْرُوف ويفطرون على الْفَوَاحِش وسلب أموال الناس ونهب خيراتهم فأمامنا صيغة قرآنية للصوم بأن نفطن لصِيَام الْبَطن عَن أكل الرِّبَا وَالْحرَام وَعَن أكل أَمْوَال الْيَتَامَى ظلما وهكذا نصمت أمام فجور الأشرار .. الصوم صمتًا بألا نسعى في الغيبة والنميمة ونفكك الروابط الاجتماعية فيما بيننا .. الصوم صمتًا بألا نهين زوجاتنا ونضربهن كما يفعل السيد بالعبيد .. الصوم صمتًا
يذكرنا الراغب الأصفهاني بأن: الصوم في الأصل اللغوي : الإمساك عن الفعل
«عينان لا تمسهما النار أبدا: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» .عند الألباني حديث(صحيح) عن أنس بن مالك. المشكاة 3829، الترغيب 2/153.
مريم البتول حين قررت أن تواجه المجتمع بقولها :
{.. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ..}
.. إنما أرادت أن تعطي هذا المجتمع فرصة لتأمل طريقة تفكيره ..
الصمت سلاح فكري ذو طبيعة نادرة .. سلاح لمواجهة الصخب والضجيج ومواجهة العتب الانفعالي ومواجهة التشكيك ..
لكن :
القليل منّا متنبه لأهمية وجدوى هذه الآلية المجربة .. لأننا لا نفصل بين ( زمن التغيير ) و ( زمن الاستعداد للتغيير ) ولا نفصل بين {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} و {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى40)
ولا نفصل بين ( ما تراه أعيننا ) و ( ماهو مستقر في ذاكرتنا من انطباعات وصور ذهنية) والقليل منّا متنبه لخطورة الآراء المسبقة ..
{.. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ..} هي الخطوة الأولى لإتاحة الفرصة للمخالف أن ينصت لصوت ضميره ، وتتبّع فطرته ، وتلمس إحقاق الحق ..
لم أفهم مغزى تطبيقات (العشرة بالمعروف) إلا حين واجهت غضب الزوجة وتمرد الولد وحماقة الجيران والتاجر وهو يخسر الميزان والطبيب وهو يتعجل الثروة والصحفي وهو يخون التوثيق والحاكم وهو يرفض أن نحاكمه ، واجهت كل ذلك بالإصرار على ألَا أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا .. سكوتي المؤقت هذا فضح التناقض بين طريقتين في التفكير .. التهور في المواجهة أو الجبن والتخلي عن المواجهة .. هاتان طريقتان أثبت الواقع التاريخي عجزهما عن الوصول للحل..
التهور أو التخلي هي الحال التي تؤهل المخالف ليكسب المواجهة في معركة يشعلها بالفوضى التي يحدثها هو .. هكذا انتصر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في معركة (صلح الحديبية) وقد سمى القرآن هذا الصلح بأنه الفتح {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}[سورة الفتح: 1] حوار النبي وصلحه مع المشركين نوع من أنواع الصمت عن المواجهة بمواجهة من نوع جديد .. الأفكار العالية لا تحتاج إلى أصوات عالية .. بل تحتاج للمزيد من ضبط النفس ..
*
لم تتوقف مريم عليها السلام عن انجاز النصر ففي اعلانها أمام الملأ أنها لن أكلم اليوم إنسيا .. بدأت تمتنع عن التكلم مع الناس فتنشغل بالتكلم مع رب الناس .. تهتم بالملك وتتجاهل عن المملوك .. تناجي ربها صامتة وهي وسط المجتمع تشعل حرائق تأمل فعلها العجيب .. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى عيسى عليه السّلام أن كلموه – أيها الناس - لا تكلمونني أنا ، فما أفعله أنا يخصه هو .. معجزته هو .. صمتها وهذه الإشارة إليه جعل الناس ينطقون بالحق : { قالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ..} ومريم تبتسم ولسان حالها يقول : من أنطق الصبي هو ذاته الذي جعلني حبلى من غير زوج !
صمتها إذن قال الكثير ..
صمتها مهد الطريق له ليثبت للنبي حضوره وسط عالم تتنازعه الأصوات العالية .. الأفكار العالية لا تحتاج إلى أصوات عالية ..