ما لم يقله البحر

شعر د. جمال مرسي


يَقولُ لِيَ البَحرُ :
أَقبِلْ أَيَا ابْنَ الحَيَاةِ إِلَيّْ .
و خَبِّئْ دُمُوعَكَ يَا شَاعِرَ الوَجدِ فِي رَاحَتَيّْ .
سَأَبْسُطُ مَوجِي إِلَيكَ
فَبُح بِالَّذِي ضَجَّ قَلبُكَ مِنْهُ
فَخَبَّأْتَهُ عَن عُيُونِ النُّجُومِ
و جِئتَ لِتُلقِيَهُ ـ قَبلَ أَن تَعلَمَ اليَاسَمِينَةُ ـ فِيّْ .
تَعَالَ لِحِضنِي ، فَحِضنِيَ خَازِنُ أَسرَارِكَ الأَزَلِيّْ .
و دَعكَ مِن الغَانِيَاتِ
فَفِي حِضنِهِنَّ نِصَالُ الظُّنُونِ
و مَهمَا فَرَشْتَ لَهُنَّ الوَرِيدَ وُرُوداً
فَلَستَ بِجَانٍ سِوَى الشَّوكِ يَنخُزُ جُرحَ القَصِيدَةِ
يُهرِقُ دَمعَ الحُرُوفِ عَلَى الوَرَقِ المَرمَرِيّْ .
و أَنتَ كَمَا قَد عَرَفتُكَ كَالنَّسرِ لَا تَرتَضِي غَيرَ أَوْجِ الجِبَالْ .
و أَنتَ الطَلِيقُ بِدُنيَا الخَيَالْ .
و فِي كُلِّ وَادٍ تَهِيمُ لِتَنثُرَ عِطرَ الجَمَالْ .
فَلَيسَ سِوَايَ حَبِيبٌ يُهَيِّئُ كُلَّ الَّذِي تَبتَغِيهِ
لِكَي مَا تُحَلِّقُ دُونَ قُيُودٍ و دُونَ نِصَالْ .
أَنَا يَا صَدِيقِي الصَّديِقُ الوَفِيّْ .
أَلَمْ تَرَ مَا بَينَ مَوجِي و شَطِّيَ مُنذُ قَدِيمِ الزَّمَانِ
مِنَ العِشقِ و الوَلَهِ القُدُسِيّْ ؟
و مَا بَينَ أَشرِعَتِي و النَّوَارِسِ
مِن أُلفَةٍ لَن تَرَاهَا
و لَو عِشتَ مِلْيُونَ عَامٍ بِعَالَمِكَ الهَمَجِيّْ .
و مَا بَينَ شَمسِ الغُرُوبِ و بَينِي
تُشَاغِلُ قَبلَ التَّوَحُّدِ عَيْنِي
و تَلثُمُ خَدَّيَّ ، تُذكِي أُوَارَ الصَّبَابَةِ فِي شَفَتَيّْ .
كَأَنَّا حَبِيبَانِ لَم يَستَفِيقَا مِنَ السُّكْرِ مِن مَشرِقِ النُّورِ
حَتَّى يَحِينَ الرَّحِيلْ .
و تَخلَعَ فَوقِي رِدَاءَ الأَصِيلْ
فَأَستُرُهَا بَينَ جَفنَيَّ ، أَحنُو عَلَيهَا ، فَتَحنُو عَلَيّْ .
و حِينَ يُطِلُّ الصَّباحُ عَلَيَّ بِوَجهٍ ضَحُوكٍ
و تُشرِقُ بَينَ أَصَابِعِهِ فِي سَمَائِي
أَرَاهَا عَلَى عَرشِهَا كَالأَمِيرَاتِ
تَنظُرُ نَحوِي بِطَرفٍ خَفِيّْ .
أَنَا يَا صَدِيقِي أَثورُ و أَهدَأُ
لَكِنَّنِي لاَ أَخُونْ .
و إِنِّي أَرَى فِيكَ نَفسِي إِذَا مَا فَرِحتُ
و إِمَّا حَزِنْتُ
و إِمَّا تَمَرَّدْتُ حَدَّ الجُنُونْ .
سَأُعطِيكَ مِنِّي المِدَادَ و مِن نَخلِيَ المُشرَئِبِّ القَلَمْ .
و مِن شَاطِئِي وَرَقَ الأُمنِيَاتِ
و مِن صَوتِ مَوْجِي شَجِيَّ النَّغَمْ
فَإِنِّي .. كَمَا قَد عَلِمتَ .. السَّخِيّْ .
سَأُعطِيكَ دِفئِي ، و طُهرِي ، و عُمقِي
فَغُصْ فِيَّ ، و اقْطِفْ مِنَ الدُّرِّ مَا شِئتَ
كَي مَا تُطَوِّقُ جِيدَ القَصِيدَةِ ، تُلبِسُهَا تَاجَهَا اللَّيلَكِيّْ .
فَخَلِّدْ بِشِعرِكَ قِصَّةَ طِفلٍ
أَتَى مُنذُ خَمسِينَ بَحراً و فَاصِلَتَيْنِ
يُصَرِّخُ ، يَبكِي
عَلَى لُعبَةٍ سَلَبَتْهَا شَقِيقَتُهُ ، كَسَّرَتْهَا
فَلَم يَنتَصِفْ لِمَدَامِعِهِ أَبَوَاهْ
و لَكِنَّمَا وَبَّخَاهْ
فَأَهدَيْتُهُ نَورَساً كَانَ يَلهُو بِأُفقِي
فَطَارَ بِهِ لِلفَضَاءِ البَعِيدْ .
و عَادَ إِلَيَّ و قَد مَرَّ عُمرٌ بِثَوبٍ جَدِيدْ .
عَلَى شَعرِهِ يَضحَكُ اليَاسَمِينُ
و تَبكِي عَلَى شَفَتَيهِ الوُرُودْ .
فَكَانَ .. بِرَغمِ التَّجَاعِيدِ
رَغمِ الخَرِيفِ الَّذِي اْمتَدَّ فِي كِبرِيَاءٍ إِلَيهِ
كَمَا أبْصَرَتْهُ عُيُونِيَ
ذَاتَ الصَّبِيِّ الشَّقِيّْ .
نَظَرتُ لِعَيْنَيهِ أَسأَلُ عَن ذَا الغِيَابِ الطَّوِيلْ .
فَقَالَ : حَدِيثٌ يَطُولُ ،
يَطُولْ .
و عُمرٌ تَدَحرَجَ بَينَ الفُصُولْ .
فَكَيفَ سَأَشرَحُ يَا بَحرُ مَا نَاءَ عَن حَملِهِ
طِفلُكَ الآدَمِيّْ .
و كَيفَ أُقَدِّمُ بَينَ يَدَيْكَ اْعتِذَارِي
و ذَنبُ اْغتِرَابِيَ لَمَّا يَزَلْ عَالِقاً فِي إِزَارِي
فَيَا كَم جَعَلْتُ المَرَافِئَ دَارِي
و كَم لَفَظِتْنِي
فَعُدتُ كَمَا قَد تَعَلَّمتُ مِنكَ الأَبِيَّ الأَبِيّْ .
و لَم تُغرِنِي كُلُّ هَذِي البِلَادِ الَّتِي قَد نَزَلتُ
بِرَغمِ سَنَاهَا
و لَا حَوَّلَت وِجهَتِي عَن بِلادِيَ رَغمَ لَظَاهَا
و لَم تُنْسِنِي نِيلَهَا الحُرَّ
كَلاَّ ، و لَا ذَرَّةً مِن ثَرَاهَا العَصِيّْ .
و يَا كَم عَشِقْتُ ، و كَم رَاوَدَتْنِي الجَمِيلاتُ عَن حُسنِهِنَّ
و لَكِنَّنِي اْختَرتُ أَنبَلَهُنَّ
فَأَسكَنْتُهَا فِي الضُّلُوعْ .
هُوَ الحُبُّ يَا بَحرُ إمَّا تَمَلَّكَنَا لَيسَ مِنهُ هُرُوبٌ
و مَا مِن رُجُوعْ .
هُوَ الحُبُّ يَجمَعُ غَرباً بِشَرقٍ و شَرقاً بِغَربْ .
فَيَا لَيتَ ، يَا لَيتَ كُلَّ اْمرِئٍ سَارَ فَوقَ التُّرابِ يُحِبّْ .
و لَكِنَّ قَابِيلَ كَادَ ، فَلَم يَستَطِع أَنْ يُوَاريَ جِسم أَخِيهْ
و إخوَةَ يُوسُفَ كَادُوا فَأَلقَوْهُ فِي الجُبِّ فَرداً
( و جَاؤُوا أَبَاهُم عِشَاءً ) ...
فَيَا لَدُمُوعِ أَبِيهْ .
كَذَا شَاءَ رَبُّكَ لِلَّناسِ أَن تَتَغَيَّرَ ،
لِلأَرضِ أَن تَلبَسَ الحُزنَ .. يَا بَحرُ .. ثَوْباً
تَلَطَّخَ بِالدَّمِ
تَخلَعَ ثَوبَ السَّلَامِ النَّقِيّْ
...
يُحَدِّثُنِي البَحرُ حَتَّى يَحِينَ الغُرُوبُ
أُوَدِّعُهُ ثُمَّ أَمضِي
و أَترُكُهُ كَي يُحَدِّثَ غَيرِي
أَحَادِيثَ تُغري


...........
( المجموعة الشعرية ما لم يقله البحر )