تحت أشعة الشمس الهادئة في شهر مارس كان (عماد) قافلا من مدرسته الابتدائية بعد حياةٍ كاملة قضاها هذا اليوم في فصل المتفوقين بـ(تالتة رابع).
كرمه مدرس اللغة العربية أمام سائر زملائه وأعطاه جائزة عينية جميلة وجد يده بحركة عفوية تتحسسها في حقيبته التربة.
ابتسم في حبور وجدّ في سيره ثم ركض في فجاءةٍ بلا سبب ظاهر كما هي عادة الأطفال لا يعبئون بنظرات الناضجين اللائمة.
وفي غمرة تصاعد أنفاسه وتلاحقها لمح في شرفة بيته (مريم) بنت خالته الحبيبة. فأسرع بالركض وكأنه لم يخلق إلا لإثارة إعجاب هذه الحوراء.
ابتسمت (مريم) ثم ضحكت وعلا صوتها لمّا ارتطم بـ(حسني) ابن حارس العقار الذي كان مستندًا إلى جدار مدخل البيت وافترشا الاثنان الأرض.
قام (عماد) سريعًا دون أن ينفض ثيابه التي زادت تترّبا ومدّ يده إلى (حسني) الذي كان ينظر إلى الأرض في شرود. ثبتت الصّورة لعدّة ثوان على هذا الوضع. حتى (مريم) التي في عليائها وقفت مأخوذة تنظر ليد ابن خالتها الممتدة إلى ابن الجيران المتحجرة في الهواء التي لا تلقى قرينتها خاصّة (حسني).

(( (د. علاء الدين مرسي)! )).
قالها مختبىء في ظلام ساتر وجهُه وهو ينظر إلى مقرفص مقابله يئن كعجائز ( نيسابور). وضع مرشّح سيجارته في فمه وأخذ نفسًا نفثه في بطء تجاه السّفليّ وقال:
- أظن نِفسَك يا دكتور ترجع لبيتك وعيالك بقى!...
رمى جملته الأخيرة وأولى البائس ظهره ناظرًا بتقزز إلى علبة حقيرة صدئة لبول المعتقل وغائطه ثم قال:
- مش عايز ترجع لشغلك وعيادتك يا دكتور!؟...
لم يجبه الأنين المعتاد. لم يجبه القابع في الرّكن.لا لم يجبه بل نظر إليه وصاح فيه وعيناه تلتمعان كبدر أزهر:
- ملكش دعوة بيا!.

فوجىء (عماد) بـ(حسني) لا يمد له يدًا بل ولا ينظر إليه البتة. استغرب ذلك لكنه لم يفعل طويلا حيث قاطعه صوت (حسني) الهدّار:
- ملكش دعوة بيا!.
وسمع كل ثقل في المحيط صياحه الذي أتبعه بركلات سددها ولكمات وجّهها إلى جسد (عماد) الذي تكوّم حول نفسه في وجع.
صرخ البائس في استسلام للضرب لا منجى منه ولا ملجأ. بينما أخذ (حسني) يضحك في جنون مروّع.

اتسعت عيناه في غيظ لمّا قال المقرفص كلمته ولم يدر بنفسه إلا وهو يركل المستسلم في جنون بواح لا مفر منه ولا مقر.
ولمّا تعب من الضرب وقف لحظة يتأمل جسده المتكوّم مستعيدًا مشهدًا من الماضي البعيد يتبدّى له كلما صاح به أحد.
خرج من الزنزانة. أغلقها العسكريّ وراءه. دخل مكتبه وكتب تجديد حبس للمتهم وقعه باسم العقيد (عماد الدين فهمي).
ثم ضحك في هيستريا.