"يومٌ ماطر"
كانت ترقُدُ على سريرها في غرفةٍ كئيبةٍ داخلَ مستشفى .. بانتظارِ الموتْ . وإبنتاها تراقبانها عن كثبْ .. إيميلي المحامية التي تسكن مدينةً بعيدة ، وماري ربة البيت وأُم لأربعةِ أطفال والتي إعتنت بأمها طوال السنين الأخيرة.. ألسماءُ تمطرُ بغزارةٍ في الخارج ، كان صوتُ المطرِ المنهمرِ على الجدران والسقف يرنُّ في اذنيهما.
قالت ماري: يا له من جو رائع! .. ليتَ أمي تسمعُ هذا الصوت .. إنها تحبُ صوتَ المطر. أجابت ايميلي: هل تذكرين عندما كنّا صغاراً؟.. كانت أمي تأخذنا للتجوال تحتَ المطر..كنت أركض وأضرب الحفرَ المليئة بماءِ المطر.. وأركض .. وأركض والمطرُ ينهمرُ على وجهي .. إنها أروع الذكريات التي أحملها عن طفولتي.
قالت ماري دون أن تنظر في وجه أُختها: إيميلي لِمَ لَمْ تزوري أمنا كثيرا في الفترة الاخيرة.
أجابت إيميلي بتوتر: لِمَ تذكرين هذا الأمر ألان ؟ بالطبع كنت مشغولة بوظيفتي كما أني لم أكن بشطارتك في مثلِ هذه الامور.
قالت ماري: كانت أمنا لا تتوقف عن الحديث عنكِ .. كانت دائما فخورة بكِ وتقول إنك صنعتِ نفسكِ بنفسك ، لكنك لم تتصلي بها إلا في المناسبات الخاصة.
أجابت إيميلي: أنت تعلمين إن الامور لم تكن تسير بيننا بشكل جيد.. أنتِ كنتِ المفضلة لديها دائما. وفجاء قفزت إيميلي من مكانها على صوت الرعد القوي وبدا صوتها مرتجفا .. وقالت .. حتى أنها لم تسالني أي شيء عندما قررتُ الزواج.. أنتِ أعطيتيها كل ما كانت تريده.. أنتِ أعطيتيها الاحفاد وبقيتِ معها في المدينة.. وكأن صوت المطر قد هدّأ من حدة صوتها.. أكملت إيميلي .. ماري أنا أحب أمي مثل حبك لها ولكني لم أكن لعبتها المفضلة.
قالت ماري بهدوئها المعتاد: أتدرين إنها لم تسأل عني عندما أصابها المرض.. كانت تلحُ عليّ كي أتصل بكِ .. كل كلمة كانت تتفوه بها بصعوبة تردفها بطلب الاتصال بكِ. بدت ماري متوترة وبدا صوتها مرتجفا .. تحركت في الغرفة جيئةً وذهابا ويداها مضمومتان إلى صدرها بقوة. قالت إيميلي : ذلك لأني لم أكن هنا معكم . ولأنكِ كنتِ معها دائما فكان من المؤكدِ إنها لن تسألكِ ذلك.
أضاءَ البرقُ الغرفةَ الصغيرة وتبعهُ صوتٌ إرتجف له قلبيهما المتعَبين . تحركت المرأة العجوز على فراشها وكأنّ ألبرق قد أمدها بالقوة .. نهضت الإبنتان عن مقعديهما وتوجهتا نحو السرير وأخذتا بيديهما يدا ألمراة العجوز.
قالت العجوز: هل أنتما معا هنا.
اجابت إيميلي: نعم يا أمي.
قالت ماري: هل تريدين أن أطلب من بوب أن يجلب الاطفال؟
قالت العجوز: كلا ، دعيهم يحتفظون بالصورة التي شاهدوني فيها اّخر مرة . هدايا العيد التي جلبتها لهم في الخزانة التي في الصالة .. قولي لهم بأني أرسلتها لهم من الجنة.
امي.. قالت إيميلي وهي تحضن يد العجوز على خدها.
قالت العجوز: إيميلي.. كم أنا فخورةٌ بكِ ، لقد ساعدتِ أُناسا كثيرين. ماري.. كنتِ الام والزوجة التي طالما تمنيتُ أن أكونه. لقد وهبتما أشياء كثيرة لكل من كان بِقربِكُما.. تسّمرتْ وما عادت تتحرك ، تنَهَدت وتلاشت أنفاسُها مع ضوءِ البرقِ الذي أضاءَ الغرفة.
مع رشقاتِ المطرِ المنهمر وصوتِ الرعدِ الذي بدا وكأنه سمفونيةٌ حزينة ، وضوءُ البرقِ الذي أنار الغرفة .. أشرَقتْ عينا العجوز ببريقٍ لم ترها ماري في عيون أُمها منذُ سنوات.
قالت ماري: أُمي ، تبدين رائعة ، كم أنتِ جميلة .. قالت ماري ذلك وصوتها المرتجف يوحي بأن شيئا مستحيلا قد يحدث.
قالت العجوز: لا ، إني أرى الملائكةَ قد حَضَروا ، هناك واحدٌ خلفَ كل واحدةٍ منكما ، يا لروعتِهما ، إنهما قلقان بشَأنِكما فحسب .. كنتما تتنازعان دائما وأخشى أن تبقيا هكذا .. ولكني أحببتُكما معا .. حان الوقت لتُحبا بعضَكما البعض.. إيميلي حبيبتي .. أنا لم أترك وصية ، كوني متاكدة من تحقيق العدالة بينكما .
قالت إيميلي : أعدُكِ بذلك أُمي .. أحسّت بقطرات الدموعِ تنسابُ على خدِّها إذ بدا يدُ أُمها تفقِد دِفأها .. وميضٌ اخر للبرقِ أضاءَ الغرفةَ وتبعَهُ برقٌ أشدَّ عنفا.
قالت العجوز : والأن .. عليكما أن تُحِبا بعضَكما البَعض وتنسَيا خلافاتِكما .. إجعلا جنازتي سَهلا .. لا تصرِفا الكثير من المال على الأموات .. ألمال للأحياء فقط .
نظرت ماري الى وجهِ أختِها ودموعُها ينسابُ على خديها ، عندما نظرتْ إيميلي إليها قالت .. أنا اسفة ..
قالت العجوز: أنا سأتركُكُم الان .. إنّه مكانٌ رائعٌ هذا الذي يأخذونني إليه .. إنها أرضٌ خضراء دافئة .. هدأت العجوز وهي تلفظِ أنفاسَها الأخيرة ، والبريقُ الذي كانَ يشعُّ من عينيها إختفى مع توقف زخاتِ المطر وهدوء العاصفة .
قالت إيميلي .. أُقسِمُ بأني أحسست بِروحها تغادر جسدها .
قالت ماري .. أحسستُ بشيء ما مرّ من جانبي .. شعرتُ بنسمة دافئة تلامِس وَجهي .. وضعتْ ماري يد أمها بِرفقٍ على الفِراشْ .. وقالت لأُختها .. كلُ شيءٍ سيكونُ على ما يُرام .. رفعتْ رأسها ونظرتْ في عيني إيميلي .. ستكونين معنا في الاعياد هذه السنة أليس كذلك؟ لا أعذار أرجوكِ .
نظرت إيميلي إليها وكأنها ترى هذا الوجه لأولِ مرة .. قالتْ .. لا أعذار.

للقاصة: سندي اّبيت