الزحاف بين الواقع النظري في نظرية الخليل والواقع الحقيقي في الشعر
الزحاف بالعادة لا يستغرق كل الأسباب في البيت، حتى لو كان الواقع النظري في النظرية العروضية يحتمل ذلك؛ فشواهد شعر العرب خالية من هذا الاستغراق. فشطر الطويل التام مثلاً: (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن)، من النادر جداً، بل من المعدوم؛ أن ترد فيه (فعولن) مقبوضة أينما وردت (فعولُ //0 / )، ويكون ذلك قد ترافق في نفس الوقت مع كون (مفاعيلن) فيه قد أصابها زحاف مركّب من القبض والكف (مفاعلُ //0 // )، هكذا: (فعولُ مفاعلُ فعولُ مفاعلن)؛ بل ولا حتى هكذا: (فعولُ مفاعلُ فعولن مفاعلن). وهذا الاستغراق المكروه بشدة في الزحاف، أكثر ما يحصل هو فيما لو أصاب الزحاف السببان المتجاوران في حشو السلسلة.
وهذان السببان المتجاوران قد يقعان في نفس الجزء، كما في الأجزاء الخمسة التالية: (مستفـعلن، مفعولات، مفاعيلن، متَـفاعلن، ومفاعلَتن) (1). وقد يقعان بين حدود الأجزاء المؤلفة لشطر من البحر المعين [كما في المديد والرمل والخفيف والمجتث: (فاعلاتن فاعلن)، (فاعلاتن فاعلاتن)، (فاعلاتن مستفع لن)، (مستفع لن فاعلاتن)].
(1) إمكانية وقوع المعاقبة لجزء الكامل متَـفاعلن، ولجزء الوافر مفاعلَتن، هو على اعتبار أنّ (متَـفا - // /0) للكامل و(علَتن - // /0) للوافر، مؤلفتان من سببين متجاورين، الأول منهما ثقيل والآخر خفيف، بهذا الترتيب؛ وتطبيق نص المعاقبة في الكامل والوافر مضطرب ومختل كما سنرى في الكتاب الأم لعروض قضاعة.
وقد كان من حق جزء المضارع فاع لاتن ( /0/ - /0 /0 ) أن تشمله المعاقبة أيضاً؛ لأنه من فئة الأجزاء التي وقع فيها السببان المتجاوران في نفس الجزء؛ ذلك أنّ (فاع) وتد مفروق، و(لاتن) بعدها سببان خفيفان متجاوران بزعم الخليل. لكن لـمّا كان المضارع مجزوء وجوباً بتقرير الخليل، فإنّ (لا تن) ستقع في موضع العروضة والضرب، وليس في الحشو [المضارع المجزوء: مفاعيلن فاع لاتن]؛ فتنحصر المعاقبة فيه بذلك في (مفاعيلن) فقط. وفي (المراقبة) المختصة بالمقتضب والمضارع، ستنحصر المراقبة في المضارع في (مفاعيلن) لذات السبب.
وهذا المعضل، أي الاستغراق المكروه بشدة في الزحاف، قد انتبه له الخليل في نظامه، فحاول حله عن طريقين، الأول: باختراع ثلاثة تفريعات إضافية للزحاف تعالج كيفية توجيه الزحاف للتعامل مع السببين المتجاورين في السلسلة، وهي: المعاقبة، والمكانفة، والمراقبة. فهذه الثلاثة ليست زحافات في نظام الخليل، إنما من ألقاب الزحاف.
فالمعاقبة [أو التعاقب]: تعني أنه ممنوع زحاف كلا السببين المتجاورين في السلسلة معاً، إنما يجوز فقط زحاف أحدهما، أو تركهما معاً دون زحاف [وقد أُخِذَ مسمّى المعاقبة من تعاقُب الرجلين على الدابة في السفر، فهما لا يجتمعان عليها معاً، وقد ينزلان عنها]. والمعاقبة تقع في كلا الاحتمالين، أي مع سببـَيّ الجزء الواحد، ومع السببين المتجاورين بين حدود الأجزاء. ومبدأ المعاقبة مبدأ صارم في نظام الخليل، فهو يفيد المنع القطعي. (2)
(2) وقد صنع الخليل للأجزاء المنخرطة في المعاقبة ألقاباً تخصها؛ لا تسمن ولا تغني من جوع، بل أنها متشابكة مع مصطلحات قائمة في نظامه. فحيث أنّ المعاقبة قد تقع بين جزأين، وليس فقط داخل الجزء نفسه، وأنّ زحاف الجزء المستهدف بالمعاقبة مرتبط بزحاف ما قبله وما بعده، فقد صنع الخليل مصطلحات بيّن بواسطتها ذلك؛ فما زوحِف لمعاقبة ما قبله سُـمّي (الصدر)، وما زوحِف لمعاقبة ما بعده سُـمّي (العَجُز)، وما زوحِف لمعاقبة ما قبله وما بعده سُـمّي (طرفان). أمّا ما سَلِم من المعاقبة فاسمه (البرئ). (العِقد الفريد ج 6/ 277)، (الجامع، ص 105)، (شفاء الغليل، للمحلّى المتوفى سنة 673 هـ، ص 79). فعلى ذلك، فالصدر والعَجُز لهما معنيان في نظام الخليل، المعنى المعروف وهذا المعنى المذكور هنا؛ بل وأدخل الخليل هذه المصطلحات في جُمل وصف نظامه التي تصف أنواع البحر وتحصرها [انظر شواهد المديد ذوات الأرقام: 9- 10- 11- 12، في الملحق رقم (1)]
وأمّا المراقبة [أو التراقب - الترقب]: فهي أنه يجب سقوط ثاني أحد السببين المتجاورين وثبات الثاني منهما، فهما لا يثبتان معاً ولا يسقطان معاً. وقد قرّرها الخليل في المضارع والمقتضب فقط. والمراقبة مبدأ صارم في المنع أيضاً، وهي مخصوصة بفئة الأجزاء التي وقع فيها السببان المتجاوران في نفس الجزء.
وأمّا المكانفة، فهي أنه يجوز لك جميع احتمالات الزحاف مع هذين السببين المتجاورين. وعلى ذلك، فالمكانفة مبدأ غير صارم في المنع، لأنه لا منع معه؛ فهو يبيح لك جميع الاحتمالات دون محاذير. والمكانفة مخصوصة بفئة الأجزاء التي وقع فيها السببان المتجاوران في نفس الجزء. وهي محصورة بالجزء (مفعولات) في المنسرح، وبالجزء (مستفعلن) أينما ورد في البحور، ما عدا (مستفعلن) الواقعة عروضة في المنسرح التام، فهذه أدخلها الخليل ضمن مبدأ المعاقبة لسبب سبب لنا أن شرحناه في مقالتنا (عقلية الخليل الرياضية المفترضة والسر الدفين).
ولـمّا كان الجـزء هو أسّ نظام الخليل، وكان مفهوم الزحاف في نظامه مركباً عليه؛ فقد كان لا بد أن يكون التعبير عن هذه الثلاثة، أي: المعاقبة، والمكانفة، والمراقبة؛ يمر عبر الأجزاء؛ وهذا جعل من مَهمّة توصيفها على كل بحر، خاصة مبدأ المعاقبة، معقداً جداً ومشوشاً للذهن. وبعض العَروضيين استعاض عن الإشارة للمعاقبة من خلال السببين المتجاورين، بالإشارة للحرف في الجزء الذي ثانيه ثاني سبب، حيث ثاني السبب هو موضع عمل الزحاف ومسمّاه، وهذا زاد من التعقيد والتشويش.(3)
(3) (فمثلاً) هناك معاقبة في السببين المتجاورين في الجزء نفسه، كما في مفاعيلن ( //0 /0 /0 )، الموجود في الطويل والهزج. وحيث أنّ هناك زحافين يدخلان على مفاعيلن لاحتوائها على سببين، هما القبض والكف، وبالتالي فهناك معاقبة بين الكف والقبض؛ فقد يقال: (في هذا الجزء مفاعيلن معاقبة، فإذا دخله القبض سَلِم من الكف، وإذا دخله الكف سَلِم من القبض؛ ولا يجوز فيه دخول القبض والكف معاً [فتصير: مفاعلُ //0 //]، لكن يجوز أن يسلَـم منهما معاً). وقد يقال: (في هذا الجزء مفاعيلن معاقبة، فالياء فيه تعاقب النون، فإذا دخله القبض سَلِـمَ من الكف، وإذا دخله الكف سَلِـمَ من القبض، ولا يجوز فيه دخول القبض والكف معاً، ويجوز أن يسلم منهما معاً). وقد يقال: عن المعاقبة في السببين المتجاورين بين حدود الأجزاء، كمجيء المعاقبة من الجزاين (فاعلاتن فاعلن: /0 //0 /0 - /0 //0 ) في المديد، أنّ النون من (فاعلاتن) تعاقب الألف من (فاعلن)، فمهما زوحف (فاعلاتن) بالكف سَلِـمَ (فاعلن) بعده من الخبن، ومهما زوحف (فاعلن) بالخبن سَلِـمَ (فاعلاتن) قبله من الكف. (الغامزة، ص 90)، (وراجع شفاء الغليل، للمحلّى المتوفى سنة 673 هـ، ص 79؛ فقد توسع في ذلك توسعاً يصدّع الدماغ).
أمّا الطريق الثاني الذي حل به الخليل ذلك المعضل، أي الاستغراق المكروه بشدة في الزحاف، فقد كان ذلك عن طريق فكرة (مراتب الزحاف). فمراتب الزحاف هي وصفٌ لمدى حُسن الزحاف أو قبحه في البحر المعين، استناداً على نسبة شيوعها في الشعر، أو بتدخل مباشر من ذوق الخليل نفسه. وقد قسّم الخليل مراتب الزحاف إلى ثلاث مراتب: مرتبة الـحَسن، ومرتبة الصالح، ومرتبة القبيح. وتستطيع أن تعتبر أنّ (الاعتماد) الذي قرّره الخليل في قالب وحيد للطويل، ينتمي لفكرة مراتب الزحاف، أمّا الاعتماد في المتقارب فليس كذلك كما سنرى في حينه.
وآلية تطبيق فكرة مراتب الزحاف تمر من خلال فكرة الجزء، وهذا يكون بوصف الزحاف الواقع على الجزء المعين في البحر المعين، بأحد هذه المراتب الثلاث. ومع الانتباه هنا إلى أنّ مراتب الزحاف موجهة فقط للزحافات التي نجت من مبدأ المعاقبة والمراقبة الصارمين، وبما أباحه مبدأ المكانفة غير الصارم.
والخليل لم يخص كل جزء في البحر بمرتبة واحدة من هذه الثلاثة، بل عمّم المرتبة المعيّنة الممنوحة لزحاف معيّن منها، على البحر نفسه بجميع قوالبه. ففي البسيط المؤلف من الجزء (فاعلن) والجزء (مستفعلن) في كل قوالبه بلا استثناء؛ حيث زحاف الخبن يمكنه الدخول عليهما كلاهما، أمّا زحاف الطي والخبل فهما مقصوران على الجزء (مستفعلن) التي تبيح لها المكانفة جميع احتمالات الزحاف. فيقال في نظام الخليل تعبيراً عن مراتب الزحاف في هذا البحر بجميع قوالبه الآتي: {**، ويجوز في حشو البسيط: الخبن، والطي، والخبل، **، والخبن فيه حسن، والطي فيه صالح، والخبل فيه قبيح} (العقد الفريد، ج6/ 298).
وتعميم الخليل للمرتبة المعيّنة على البحر نفسه بجميع قوالبه، هو أعظم ثغرة في فكرة مراتب الزحاف؛ ما أفقد هذه الفكرة أو كاد، قيمتها التي أوجدت من أجلها في نظامه؛ وهي ثغرة انتبه لها بعض العَروضيين واستنكروها، وحاول بعضهم تصحيحها كما سنرى.
إشارة: الاعتماد في الطويل محصور بعجز النوع الثالث فيه [فعولن مفاعيلن فعولن مفاعي: الطويل ذو العروضة التامة المقبوضة، ولها ضرب محذوف معتمَد (الشاهد رقم 6 )]. فالاعتماد في الطويل هو أنّ ورود (فعولن) قبل الضرب المحذوف سالمة من الزحاف، هو أمرٌ قبيح؛ أمّا ورودها مقبوضة فهو الحسن (فعولُ). فقبضها هو الاعتماد، أي أنّ الاعتماد هنا لقَب للزحاف وليس زحافاً. ومن هنا يتضح لنا أنّ مفهوم الاعتماد في الطويل داخل ضمن فكرة مراتب الزحاف بامتياز؛ وأنه لم يكن هناك من داع إطلاقاً لصنع مسمى له، ولا أن يحشر في جملة الوصف كذلك. وأن يحصر الاعتماد في المتقارب فقط، لأن مفهومه ووظيفته فيه، مخالفة تماماً لمفهومه في الطويل ولوظيفته فيه، وسنشرح في حينه المناسب سبب ذلك بشأن المتقارب.