(6)
فمقطع الأصواتيين لم يثبت وجوده أصلاً وفصلاً، إنما هو متدثر بشبهات صوتية؛ لكن القوم أوهمونا بأنهم وضعوا أيديهم عليه، وإنما هم مختلفون على ماهيته فقط؛ حيث الاختلاف على ماهية الشيء واردة..؟ فمنذ فجر التاريخ أدرك البشر وجود الشمس، لكن اختلفوا على ماهيتها، لدرجة جعلت البعض يظن أنها إله فعبدوها. فالقوم عندما قالوا إن سبب اختلافهم على مقطعهم يرجع لطبيعة النظرة إليه، هي مغالطة عقلية وقعوا بها، وأوقعوا غيرهم بها؛ فالحقيقة أن سبب اختلافهم عليه، ورفض صاحب عروض قضاعة له؛ أن وجوده هو المشكوك فيه أصلا وفصلا، فكل تلك الدلائل عنه إنما هي شبهات صوتية كشبهة الخليل عن الوتد المفروق وعن السبب الثقيل.
والذي يشهد لنا ضمنيا بما زعمناه، أي بكون أن معضلة المقطع المزمنة كامنة في الوجود وليس في الماهية، الباحثة المجدة الدكتورة فاطمة الهاشمي بكوش. فهي بعد أن استعرضت جميع محاولات تعريفات قدامى الأصواتيين العرب للمقطع [حتى عام 2004 م]، قالت: {إن تحديد المقطع بوصفه وحدة صوتية هو منجز آخر من منجزات اللسانيات، إذ لا نجد هذا المفهوم في الدراسات الصوتية التقليدية، ومنها الدراسات الصوتية العربية **. وقد وظف اللسانيون العرب المقطع في تحليل الوحدات الصوتية في اللغة العربية. **، وقد اختلف اللسانيون العرب في تعريف المقطع، **، وتبدو هذه التعريفات مرتبكة ومبهمة، وغير محددة، ولا تستند إلى معيار أو قاعدة}. (نشأة الدرس اللساني الحديث، ص 110)
ويتوالى التعجب بعد الذي رأيناه فيما سبق، وفيما سنراه فيما هو قادم في الكتاب الأم لعروض قضاعة؛ أن علمهم المؤسس على أسس علمية والمستخدمة فيه أجهزة علمية لم تتوفر للأقدمين بزعمهم، لم يستطع تفسير إيقاع الشعر العربي ولا التغيرات الصوتية الحاصلة فيه (الزحاف والعلة). فالقول بأنّ سبب عدم حصول النشاز بحضور الزحافات، انما هو تحويل المقطع المتوسط إلى مقطع قصير، على ما يزعم ايراهيم انيس كأول أصواتي عربي (موسيقى الشعر، ص 149)؛ ليس بتفسير لماهية عَروض الشعر العربي، إنما هو توصيف آخر لهذا الواقع باستخدام فكرة المقطع البائسة، حاله حال توصيفات الزحاف في نظام الخليل بالاستناد على مفهوم الحرف الصوتي بكلا شقيه المتحرك والساكن.
بل يكاد أن يكون قول أنيس هذا، هو نفس قول الخليل بتحويل السبب الخفيف إلى حرف متحرك عن طريق حذف ساكن السبب كزحاف..؟ فالمقطع المتوسط عند الاصواتيين يوازي على التقريب وليس على الانطباق، السبب الخفيف في الناحية القياسية لعروض شعر العرب، سواء المفتوح منه أو المغلق [لَمْ - مَا: /0]، والمقطع القصير عندهم هو الحرف المحرك عندنا [لَ- مَ: /]. ما يعني أنّ مقطعهم إنما إلتَفّ على مصطلح الساكن عند العرب. فليس هناك فرق جوهري بين قول كلا الفريقين في تفسير سبب أنّ هذه التغييرات لم تُؤدِ إلى نشاز صوتي في شعر العرب، فكلا القولين مجرّد وصف لم يفسر هذه أصل هذه القضية، ما يجعل كلا القولين نسبةً لبعضهما البعض، أشبه بالمثل الذي يقول (هذه أذني وهذه أذني)، فقول أنيس هذا هو نفس قول الخليل إنما بطريقة ملتفة، بل هو أكثر تعقيداً من قول الخليل.
نقول هذا مع التنويه على حقيقة أن عروض الشعر العربي هو الميدان الحقيقي لاختبار النظريات الصوتية. هذا الميدان الذي رأيت معظم الأصواتيين يتحاشونه، عرباً وعجماً؛ مع أنه من صميم تخصصهم..! ومن جرّب منهم اقتحامه متسلّحاّ بأدوات الأصواتيين، كابراهيم أنيس ومحمد مندور وسليمان ابوستة، وغيرهم، فلن يجني إلّا الشوك، وسيعود بخفيّ حنين.
وتأكيداً منا للزعم السابق، يقول دافيد ابر كرومبي (David Aber Crombie)، وهو أصواتي غربي بارز؛ وذلك بداية رسالته التي تبحث في العروض الإنجليزي مع مقارنته بالعروض الفرنسي دون غيرهما، قال: {أوَد أن أقول في مستهل حديثي: أني لا اهتم بالعروض اهتمام الهواة. إذ أراه من صميم تخصصي، ومن ثم فأنا أدرسه دراسة المتخصص المحترف. والحق أنّ معظم علماء الأصوات لا يلقون بالاً إلى العروض، كما أنّ العروضيين لا يلقون بالاً إلى علم الأصوات. والسبب في هذا وذاك (على ما يبدو) أنّ الفريقين لم يتفقا على أسُس معرفية مشتركة}. (27)
وبخصوص رأي الأصواتيين العرب بهذا العزوف، لنستمع لسعد مصلوح، وهو أصواتي عربي بارز؛ قال: {ما أظن مشتغلاً بالدرس الصوتي واللساني بحاجة إلى أن يلقي معاذيره حين يبدي اهتماماً بمسائل العروض وقضايا الإيقاع الشعري. نعم إنّ هذه المسائل والقضايا من الشواغل الأصلية لدى أهل الأدب ورجال النقد، بيد أنها واقعة في الصميم من مشكلات الدرس الصوتي. ومن ثم فإنّ اهتمام الأصواتيين بها هو اهتمام مِهَني؛ والصوتي فيها شريك أصيل. هذا ما أدركه جمهرة من نقادنا الرواد من أمثال محمد مندور (1943)، ومحمد النويهي (1964)، وشكري عيّاد (1968)، فحملهم ذلك على إنتاج حقل الصوتيات، يلتمسون فيه حلاً لِما أشكل من قضايا العروض. أمّا الأصواتيون فقد ولجوا هذا الميدان على استحياء، حتى إنّ كتاب إبراهيم أنيس (موسيقى الشعر)، يقف شاهداً فرداً على تقادم عهده وتجاوز الزمن إياه في كثير من مسائله. لهذا كان عجباً أن ينصرف الأصواتيون [العرب] عن معالجة قضايا الوزن والإيقاع، مع توافر الدواعي وإلحاح الأسباب،**}. (28)
فالدكتور إبراهيم أنيس رحمه الله، وهو أحد أوائل الأصواتيين العرب، والذي اتهم الخليل عند صنع نظامه بأنه نهج فيه نهجاً غير مؤسّس على أسس علمية، قد أعيته فكرة المقطع التي جاءوا بها في وصف عَروض الشعر العربي، وصفاً محكماً مترابطاً شاملاً كما فعلَ الخليل، ناهيك عن فشله في محاولة بيان ماهيَّته كما قلنا قبل قليل. فمع أن الوتد المجموع ككيان قائم بنفسه (//0)، ليس له مكان في مقاطع الاصواتيين، لكننا وجدنا ابراهيم انيس بعد أن أعيته فكرة المقطع، يعود إلى ثلاثة تفاعيل من تفاعيل الخليل كاقتراح يمكن تطبيقه عملياً لصناعة مسطرة تقيس عروض الشعر العربي (موسيقى الشعر، ص 139). فليس في محاولة د. أنيس أيّ نظامٍ جديد كما يدعي، وإنما هي محاولة للتسهيل، جاءت مختزلةً إلى حدّ الابتسار المخلّ على حدّ وصف د. عمر خلوف، وهو محق في ذلك. (29)
ومع أن الاستاذ سليمان ابو ستة ليس بأصواتي في الأصل، انما هو عروضي خليلي بارع جداً، لكنه جرّب الاستفادة من معطيات عِلم أصوات اللغة المحدَث في صنع نظرية عروضية عربية جديدة، صدرت عام 1992 (في نظرية العروض العربي)، مؤسسة على فكرة المقطع البائسة بنظرنا. وبرأيي أن نظريته لم توفّق في أن تكون بديلاً حقيقياً عن نظرية الخليل، ولا حتى أن تكون مساعدة في فَهم نظرية الخليل؛ إنما هي بنظرنا قد عَمّقت من مأساة فكرة المقطع البائسة بأيد عروضية هذه المرّة. ولعلنا نفرد مقالة نناقش فيها نظرية الاستاذ سليمان ابو ستة بكل إنصاف، فنبيّن ما لها وما عليها من وجهة نظرنا.
(27) [(العروض من وجهة نظر صوتية، ص 47، ترجمة: علي السيد يونس). وراجع لنفس المؤلف نفس هذا الكلام في: (D. Aber crombie/ studies in phonetics and linguistics, oxford univ. press)- نقلاً عن: (المستشرقون ودراسة العروض العربي، ص 190)].
(28) (في مسألة البديل لعروض الخليل- دفاع عن فايل، ص 204).
(29) ( دراسات عروضية رَائِدَة- إبراهيم أنيس: للدكتور عمر خلوف- مقالة على الانترنت)
فعروض الشعر العربي وعلى عكس ما أوهمتنا نظرية الخليل العروضية ومسطرة نظامه، هو غاية في الدقة الإيقاعية والصوتية المذهلة، وهو يستند على أساس صوتي بحت كنخاع العظم الصافي؛ ولا دخل له باللغة؛ لكن تأثر الخليل بأبحاث اللغة هو ما أفسد عليه نظريته وصعبها أيما تصعيب. وبالتالي، فلماذا عجز الاصواتيون الذي علمهم مؤسس على ما ذكروه من أسس علمية، عن تفسير دقائق عروض الشعر العربي على ما سيتضح لنا في كتابنا (الكتاب الأم لعروض قضاعة). ولماذا عجز علمهم، وهو المؤسس على ما ذكرنا، على أن يؤدي إلى نتائج واضحة في علم الصرف، كمثل ما أداه بحث اللغويين العرب له بالاقتصار على الحرف الصوتي؛ هذا المبحث الذي نال من تهكمهم أكثر مما نال غيره من مباحثهم، يرى ذلك كل قارئ لكتبهم.