يسود الصمت, لا يخدشه سوى همس دبيب خطواتها الهادئة فوق العشب, تتوقف, تلامس بأناملها وردة وحيدة, تمس وريقاتها بشفاهها في حزن, يترقبها القمر, ينعكس نوره على عينيها الساحرة, فيهطل كمطر أسود مدمر في رأسها الصغير المعذب, يختلط بذكرياتها ...فتنطلق من عقلها متعثرة...
- أنت محظوظة لأنك لم تموتي ولم تصبحي مقعدة أو عمياء أو خرساء , أنت مازلتِ قادرة, قادرة ولو قليلا, وهنا تكمن المشكلة, قادرة ولستِ قادرة, ظل يعانقه النور, لؤلؤة في محار ضائع. لم لا تحاولي؟؟؟ نتيجة المحاولة هي التي ستقطع ذلك الخيط الرفيع الواهن...
تغمض عينيها في ألم, تنهمر دمعة, تتناثر فوق الوردة , تتنهد. تقف فترة تتأمل الوردة, تبحث في رقتها عن حلمها المتوجع , تستجدى حريتها من سجن ابتسامة باهتة تتردد في معانقة جانب فمها, وتتوه أفكارها هنا وهناك...
ينبعث فجأة من أحد النوافذ القريبة لحن موسيقي معروف... اللحن الأخير في مسرحية الباليه الشهيرة " بحيرة البجع" , تجمد في مكانها, لم هذا اللحن بالذات... الآن ؟؟؟ تهز نسمة خفيفة أوراق الشجر فيحدث همسها دوياً قوياً في مسامعها, وتهب كألف ريح تلفح جراحها الغير مضمدة, تتوتر أعصابها كأنها تسير على حبل مشدود متآكل بين جبلين من جليد داخل رأسها, تنقبض أصابعها في عنف, تنسحق الوردة, تشيح بوجهها في ألم, تتحرك مبتعدة, القمر يرسل أشعته على العشب المندى فيستحيل إلى بحيرة فضية ... تتلألأ, تبدأ ثلوج ذكرياتها في الانهيار, تندفع بقوة من عقلها...
-عودي ...
-في العودة ألم كانسحاب المطر من السحاب...
-لكن منه تخرج الحياة...
-أصلحي المفتاح المعطل...
-قد أصلحه ولا يفتح...
-حاولي... حاولي...
تتسلل موسيقى "تشايكوفسكي" كشلال موجي مسحور داخل أعصابها, فتشتعل داخلها نيرانا ظلت مدفونة طويلا تحت الرماد, تخلع حذاءها, تسير بخفة كأنها فوق الماء, تتنفس الموسيقى, تتسلل في دمها, تندفع ذكرياتها الحبيسة كإعصار, فيكتسح الماضي الحاضر...
تقف على أطراف أصابعها...
- غدا الافتتاح... أنت الملكة...
تلقى برأسها إلى الوراء...
- ستصبحين أسطورة تتربع قمة المجد...
تمد ذراعيها عاليا كنجاحين...
دراجتها تنطلق بها, تملأ وجهها ابتسامة... تتسع وتتسع لتشمل الكون...
تسقط ظلالات القمر عليها في وقفتها الرائعة, ثم ترتد منعكسة عن ثوبها الأصفر...
ابتسامتها تنطق بولادة ضحكة, تكبر بداخلها وتكبر...
تثبت طويلا على وضعها, فتبدو كأنها "أوديت" الجميلة المسحورة ...
سرعة الدراجة تزداد, تسابق الريح... كأنها استحالت بساطاً سحرياً...
تدور دورة كاملة على أطراف أصابعها...
كلب أسود متشرد أشعث الشعر... يظهر فجأة...
تدور ثانية في انتشاء...
الضحكة تموت وتولد صرخة ...تشق عباب الفرح ...
تتوقف في رشاقة...
مكابح العجلات تصدر صراخاً يعانق صرخات ألم مزق أوتار ساقها...
تتقوس للخلف... يداها تلامس الأرض, قدم على الأرض والأخرى ترتفع عالياً...
دوار يلفها ... أقدام كثيرة تلتف حولها...
تستمر طويلاً ثابتة على وضعها في جمال أسطوري فريد...
من بين الأقدام حولها تنظر إليه... يسير في لا مبالاة عجيبة...
ترتد للأمام واقفة في مرونة...
يلتفت, يرسل إليها نظرة لزجة, تلتصق بجرحها ...
تلف... تلف...
يواصل طريقه وكأن شيئا لم يحدث...
- ستتوقفين عن الرقص لفترة...
تلف ثم تدور مسرعة...
- لكن... ربما لن ترقصي ثانية...
تجرى ملتاعة في مسار دائري...
الساحر يطارد الملكة ...
- عودي...
الأغصان ترقص حولها على موسيقى مقطع "رفيف الأجنحة"...
البجعة اليائسة ترقص... ترقص... تجسد كل حزن وآلام الإنسانية ...
تخفى الأشجار خلفها أشباح السحرة المخيفة...
هل سيأتي الأمير " سيجرافيد"؟؟؟...
هل سيحررها من السحر؟؟؟...
- مازلتِ قادرة...حاولي...
تصل الرقصة إلى ذروتها...
تقترب من نهايتها...
تقفز في الهواء ... تحلق في انبهار... تدور دورة كاملة...
تحط على قدم ونصف قدم ...
تطلق أوتار ساقها صرخة ألم رهيبة...
تنحني, تلقى يداً للخلف , والأخرى تمدها أمامها تكاد تلامس بها الأرض...
تئن قدمها محتجة...
ترفع رأسها, تجمد في مكانها... كبجعة على وشك الطيران...
تتوقف الموسيقى...
يسود الصمت .
بقلم/ د. نجلاء طمان
16 أغسطس 2007 م .