فنّ استخراج الترميز الصوتي من الشطر الشعري

صاحب علم عروض قضاعة: أبو الطيّب ياسر بن احمد القريـــــــني البلوي القُضاعي


الملاحظ في كل من يسعى لتعلّم علم العروض العربي، سواء علم عروض الخليل أو علم عروض قضاعة، أو حتى الطرق الرقمية في العروض؛ أنه تستولي على ذهن الراغب بذلك قضية إتقان استخراج الترميز الصوتي الصحيح من الشطر الشعري، فيستعجل إتقانها حتى قبل أن يستوعب علم العروض.
وهذه الرغبة المحمومة لإتقان ذلك، هي المعيق الأول لها وفي تحصيل علم العروض أيضاً..؟ ذلك أنّ هذا يضغط نفسياً وعقلياً على المتعلّم، فيجعله يملّ وييأس قبل تحصيل هذا العلم؛ فإتقان القراءة العروضية لاستخراج الترميز، إنما هو وسيلة لإتقان علم العروض، وليس هو الغاية من هذا العلم.

كما أنّ مهارة استخراج الترميز من براثن النص الشعري الإملائي، وحتى من براثن المنطوق منه، هي ملَكَة تتحصل مع كثرة المِران لسبب سنشرحه بعد قليل. فإذا ما تعجّل العربي امتلاك هذه المهارة قبل هضم العلم، فهذا قد يُدخِل اليأس على النفس، وبالتالي قد يمنعه اليأس من تحصيل كلا الأمرين. أمّا لو أنّ المتعلم صرف كل جُهده في البداية لهضم علم العروض، فاستوعبه استيعاباً صحيحاً، فسوف يتفرغ ذهنه حينها لإتقان القراءة العروضية. إذ سيقف علم العروض حينها في صفه ليساعده في تحقيق هدف إتقان القراءة العروضية. فالقواعد العروضية سوف تدلك على الترميزات الصحيحة المتوقعة، حتى في نظام الخليل الذي طبعت الصعوبة نظامه ككل. أمّا استخراج الترميز مع قواعد نظام قضاعة، والحكم عليه صوتياً وإيقاعياً فوراً، فهو في منتهى السهولة.

والسؤال هنا، لماذا يعتبر استخراج الترميز للمبتدئ أمراً صعباً حقاً، ومع كثرة المِران يصير ملَكة فتزول الصعوبة..؟

فمع أنّ المطلوب من مستخرج الترميز هو أن يستعمل حاستَـيّ النطق والسمع، فتسجل يده ما نطق لسانه وسمعت أذنه، وتنبذ من الإملاء ما لم ينطقه اللسان وتسمعه الأذن؛ فيُفترض بهذا الأمر أن يكون سهلاً، ذلك لأنها ناحية حسية عقلية بحتة. لكن المشاهد أنّ مستخرِج الترميز المبتدئ يجد صعوبة في ذلك، حتى لو كان هو الخليل نفسه أو سيبويه أو الأخفش أو الزجّاج..!

الشاهد: كبينة على صدق كلامنا السابق بشأن الصعوبة التي يجدها المبتدئ في استخراج الترميز، انظر مثلاً لِما يقوله إبراهيم بن السَري الزجاج [ت/ 311 هـ]، وهو تلميذ الأخفش، وهو من أهل اللغة ومن أوائل العَروضيين بعد الخليل، فهو يقول تحت (باب الساكن والمتحرك): {اِعلَم أنّ الذي ينظر في العَروض إن لم يعرف الساكن من المتحرك، لم يجز أن يعلّم العَروض}. أقول (أبو الطيب): ولأنّ الزجاج نفسه قد مرّ بمعاناة استخراج الترميز الصحيح كأيّ مبتدئ، قبل أن تصبح عنده ملَكة، فها هو يقدم تجربته ونصائحه للآخرين، فيقول:
{ولا بد له في علمها من أن يكون صاحب عربية، وقد نظر في شيء من العربية. ومعرفة الساكن من المتحرك يُعلم بأن يمتحن الحرف، فإن ساغت لك ثلاث حركات فيه فهو ساكن؛ لأن حركتين إذا ساغتا فيه، والحركة التي لم تَسُغ فيه، كانت من حركته، فهو متحرك. فإن قال قائل: "ما تقول في الراء في (بُـرد)..؟ فقُل: هي ساكنة، والدليل على سكونها أنك تحركها بالضم والكسر والفتح فتقول في بُـرد: (بُـرُد وبُـرِد وبُـرَد). فبهذا عرفت سكون الراء **، فعلى هذا فقِس الساكن من المتحرك، وتعلّم المتحرك من الساكن} (كتاب العروض للزجاج، ص 136).
هذا مع تسجيل اعتراضنا على فقرته التي يقول فيها [ولا بد له في عِلمِها من أن يكون صاحب عربية، وقد نظر في شيء من العربية]، فهي فقرة فضفاضة توحي بأنّ على متعلم العروض معرفة النحو والصرف. والحقيقة أنّ الأمر ليس كذلك، فهذا الشرط قد يكون صحيحاً بحق الشاعر الناظم بالعربية الفصحى، أمّا مع متعلم العروض أو العروضيّ، فالأمر ليس كذلك، إذ يكفي فيه أن يكون عربياً يفهم مدلولا الكلام العربي.
فلو كان الأمر على ما يدّعي الزجاج، لَما تمكن أبو الطيب البلوي من فتق العروض العربي، واكتشاف حقيقته الصوتية والإيقاعية، وإخراج علم عروض قضاعة للوجود وهو لا يعرف النحو والصرف..! فمستخرج الترميز الصوتي لا يعنيه أن يكون الفاعل مرفوعاً بالضمة، بل يعنيه أن يكون محركاً وكفى، يساعده في ذلك أنّ تسكين حركته قد يعني التقاء ساكنين في الحشو في كثير من الأحيان، وهو ما لا يجوز نهائياً في الشعر العربي.



توجيه: القول السابق في هذا الهامش، لا يعني أنه لا يجب على المؤلِّف في كتابه، الإشارة للقراءة العروضية في بداية طرحه لأبجديات علم العروض العربي، بل لا بد له من الإشارة إليها لكونها ناحية صوتية رئيسية يقوم عليها علم العروض، والذي هو علم صوتي في جانب كبير منه. فيشار لها بالأجمال مع ذكر أهم الملاحظات المهمة عنها، مع ضرورة تنبيه المتعلم إلى عدم حصر ذهنه بها إلّا بعد حيازة علم العروض واستيعاب قوانينه.
هذا مع ضرورة أن تكون جميع أمثلة الكتاب الشعرية قد استخرج المؤلِّف ترميزها نيابة عن المتعلّم، من أجل مساعدته في تحقيق هذا الهدف. ولأن المتعلم إذا انتهى من هضم هذا العلم، فلا غنى له عن الرجوع لهذه الأمثلة للتمرن عليها، من أجل إتقان فن استخراج الترميز. وإذا وُضِعت تمرينات في الكتاب، فعلى المؤلِّف إرفاق حلولها في نهاية الكتاب أيضاً، لذات السبب؛ وليس كما تفعل كثير من كتب العروض الحديثة.